«20» الفردانية
من ناحية أخرى فان القول بان الفردانية مذمومة عند الفلاسفة الاخلاقيين، فيه أيضا مبالغة غير محمودة. ولعل سبب هذه الانطباع هو سيطرة المضمون الاخلاقي على الجدل حول المسألة في مجتمعنا. وهو مضمون متأثر - بالضرورة - بالفهم المسبق والرؤية المستقرة، التي تعلي شأن الجماعة بشكل كلي يلغي أي قيمة لوجود الفرد واستقلاله. على اي حال فقد نحتاج للتوسع في مناقشة الفكرة، لأنها لا تحظى بما تستحقه من النقاش في إطارنا الثقافي المحلي.
يجب التمييز من حيث المبدأ بين مقاربتين مختلفتين لمسألة الفردانية:
أ» المقاربة الاخلاقية/القيمية، التي تستهدف الحكم على المبدأ. بعض الناس يرى ان قيمة الفرد وهويته مستمدان من تمثيله للتيار الاجتماعي العام واندماجه فيه، وبعضهم يرى ان الفرد كون مستقل وأن علاقته بالمجتمع عرضية. وبناء عليه فكل من الاتجاهين يؤسس منظومته الاخلاقية والقانونية تبعا لما يؤمن به.
ب» المقاربة العلمية التي تستهدف كشف العوامل الكامنة في العلاقة بين الفرد والجماعة. نعرف ان جميع الباحثين تقريبا يقرون بأن جانبا مهما من ذهنية الفرد وسلوكه اليومي، هو انعكاس لتأثير علاقته بالمجتمع. لكنهم يختلفون في نقطتين هما: حدود هذا التأثير، هل هو كلي ام جزئي، وهل هو معروف للفرد وبالتالي طوعي، أم انه غيرمدرك وينطوي - بالتالي - على نوع من الجبر.
هذه المقاربة تستهدف اذن كشف طبيعة الواقعة الاجتماعية، اي تحديد ما اذا كانت الظاهرة او الواقعة الاجتماعية مجموعة افعال متشابهة لمجموعة افراد يمكن تفكيكها، أو اعتبارها فعلا واحدا لكتلة اسمها المجتمع، بغض النظر عن افعال الافراد وتمايزاتهم.
الذين يعارضون الفردانية انطلاقا من المقاربة الاخلاقية، يركزون على كونها غطاء للانانية او مبررا لها. وفي هذا فهي من العيوب الاخلاقية. نعلم ان الفرد لا يولد ولا ينمو ولا تتطور ملكاته في معزل عن الجماعة. بل لا يمكن له ان يتمتع بالمستوى المتقدم من المعيشة الذي يطمح اليه، لولا مساهمة الاخرين. ولهذا فليس من الاخلاقي ان يتنكر لهم بعدما يصبح راشدا قادرا على المساهمة في حياة الجماعة وارتقائها.
اما الذين ينادون بالفردانية، فهم يرون ان استقلال الفرد وتحرره من قيود الجماعة، ضروري لجعل مساهمته في حياة الجماعة اكثر جذرية وتأثيرا. وهم يقولون ان اهم التطورات في حياة البشرية، قام بها أفراد تمردوا على الانماط والافكار والمسلمات السائدة في مجتمعاتهم. ولولا انهم تجاوزوا بخيالهم وطموحهم حدود المشهود والمتعارف، لما ابدعوا جديدا. جميع المبتكرين والمخترعين وكبار المفكرين والاقتصاديين وقادة الامم، كانوا من هذا النوع من الافراد الذين تجرأوا على مخالفة السائد والذهاب وراء ما اعتبره غيرهم تخيلات وأحلاما.
يرى هؤلاء ان مساهمة الفرد المندمج في الجماعة، ليست سوى تكرار لما يفعله الالاف من الناس، وما فعلوه في الماضي. بينما يوفر استقلال الفرد بفكره وتطلعاته وقيمه، فرصة لخيارات جديدة واحتمالات جديدة غير مألوفة، وهذا ما ينتج التقدم على مستوى الجماعة، وأحيانا على المستوى الكوني.
نعلم على سبيل المثال ان هناك الكثير من الافراد مستعدون للتضحية بانفسهم وأموالهم في سبيل اوطانهم ومجتمعاتهم، حتى لو لم يكونوا مضطرين لذلك. هذا يشير الى اندماج مطلق في الجماعة ينطوي على انكار للذات. لكن هذا الفرد المستعد للتضحية قد يتساءل ايضا: لماذا يجب عليه ان يحرص على احفاده أكثر من حرصه على نفسه مثلا؟. لماذا يجب عليه ان يذهب لحرب قد يقتل فيها، اذا كانت النتيجة المحتملة هي استعباد مجتمعات اخرى، او تغول الدولة في مجتمعه الخاص؟.
المؤكد ان اي فرد سيرفض القبول بنزع حريته، او التنازل عن حقوقه، اذا عرف مسبقا ان هذا سيؤدي الى مذبحة او استعباد له ولانداده، او ربما ابنائه واحفاده، بناء على فكرة او ارادة اعتباطية، قررها فيلسوف او حاكم او جماعة.
هذا يشير الى الحاجة لوضع خط واضح، يميز بين ما نصفه بالرابطة العقلانية التي تشد الفرد الى الجماعة، وبين الانصهار الكلي الذي قد يقود لتبعية عمياء تذيب ذات الفرد وتلغيها. جوهر المسالة اذن هي القولبة والتنميط القسري الذي يلغي ذاتية الفرد، ويحوله من رقم قابل لان يكبر وينتج، الى صفر يضاف الى ارقام اخرى هي الدولة او الجماعة او الطائفة او السوق.
ينتمي جميع هذه المعالجات إلى هذا العصر. وليس لدينا اي بحث متين حول هذا الموضوع في التراث القديم. ربما باستثناء اشارات للفيلسوف المعروف ابو نصر الفارابي ضمن حديثه عن مفاسد المدينة الجماعية، في كتابه ”آراء أهل المدينة الفاضلة“. وهي لا تتعلق مباشرة بالموضوع، لكنها تشير إلى منطلقات الكاتب. ورأي الفارابي وموضوعه مستمد بالكامل من آراء ارسطو الفيلسوف اليوناني.
زبدة القول ان الفكر الديني لم يول اهتماما جديا لدور الفرد ومكانته في الجماعة. ولهذا استقر في الاذهان التصوير القديم، الذي كان سائدا في أوربا ايضا قبل القرن التاسع عشر، والذي فحواه ان هوية الفرد هي امتداد لهوية الجماعة، وان مصلحتها مقدمة على مصلحته، وان دوره مستمد من عضويته في الجماعة وخاضع لمعاييرها.
هذا تفكير ديني بمعنى تبنيه من جانب المجتمع المتدين، في المسيحية والاسلام. لكن ليس بمعنى ان هذا هو ما أراده الدين او ما نفهمه من النص الديني، سيما في إطار القراءات الجديدة.