«25» الايديولوجيا كحجاب
في ظني ان الانسان لا يحتاج إلى التحرر من الايديولوجيا، على فرض ان هذا ممكن، بل يحتاج إلى:
أ - الوعي بأنه يحمل ايديولوجيا / منظومة مسلمات ذهنية تؤثر على آرائه وأحكامه. ونتيجة لهذا فان آراءه ليست معيارية أو موضوعية في كل الأحوال.
ب - الوعي بان الايديولوجيا - حتى لو اعتقد بصحتها - تلعب أحيانا دور حجاب الحقيقة، أي أنها تظهر الأشياء للعين والعقل بخلاف ما هي عليه في الواقع الخارجي.
ج - الوعي بالفارق بين وظيفتي الايديولوجيا والعلم. وظيفة العلم هي وصف الأشياء وتفسير أحوالها، أما وظيفة الايديولوجيا فهي الحكم على تلك الأشياء والأحوال وتحديد قيمتها، أي إيجاد علاقة بينها وبين الشخص.
من هنا فاني من القائلين بإمكانية الجمع بين عقلين: عقل علمي يصف الأشياء ويفسرها، مهما تباينت مع رغبات الشخص وقناعاته ومعتقداته، وعقل ميتافيزيقي دوره صناعة المعنى، وتسكين الروح، ومنح الأشياء الخارجية لونا إنسانيا، وإيجاد علاقة جمالية بين الشخص والعالم. من المهم على أي حال الوعي بوجود هذه الثنائية وعدم الخلط بين العلم بالأشياء والحكم عليها.
ومن نفس المنطلق فان الجانب الميتافيزيقي والايديولوجي يضع اطرا لما يتعلمه الانسان، ويحدد مستوى واتجاهات تأثير المعارف الجديدة على عقله وشخصيته. بعبارة اخرى فاننا نتحدث عن ظرف متحرك، يميل الى هذا الجانب حينا، ويميل الى الثاني حينا آخر. لهذا نقول ايضا بأن هوية الانسان تتغير وتتسع وتتعدد باستمرار.
اذكر مثالا آخر عن رجل دين لا يقرأ الصحف ولا يطالع التلفزيون. ولديه مساعدون واصدقاء ينقلون له الاخبار بعد توجيهها على نحو يريحه. وفي بعض الاحيان يزيدون فيها وينقصون، كي تظهر في صورة تلقى هوى في نفسه. وقد زرته مرة فوجدته يتحدث عن اشياء غريبة لا يقبلها العقل. لكنه كان مقتنعا بها تمام الاقتناع، اشياء من نوع ان الجيش الامريكي يتألف في معظمه من جنود آليين يصنعون في مصانع تحت الارض، واشياء من نوع ان الحاكم الفلاني يحكم بلاده بواسطة السحرة، واشياء من نوع ان ولي عهد بريطانيا قد اسلم لكنه كتم ايمانه، ولهذا لا تريد النخبة لبريطانية ان تتنازل والدته عن العرش كي لا يحكمهم مسلم.. الخ.
مثل هذه القناعات تجد طريقها الى عقل الشخص لانه معزول عن العالم، يرى جانبا محددا بطريقة محددة. هذا يظهر ان تاثير الايديولوجيا في بعض الاشخاص قد يكون اعمق واوسع من تاثير المعارف الجديدة.
اود الاشارة أيضا الى مثال ذكره د. سعد الدين ابراهيم في كتابه القيم ”النظام الاجتماعي العربي الجديد - 1981“ والذي عالج في أحد فصوله إشكالية قريبة مما ذكرناه آنفا، تتمثل في صورة الطبيب أو المهندس الذي يستعمل المنطق العلمي في عمله، لكنه يعيش في حياته المنزلية والاجتماعية وفق تصورات خرافية أو غير علمية.
وقد رأيت أمثلة كثيرة من هذا النوع. وأظن ان هذه الحالة مرجعها شعور واع بالعجز عن حل الاشكاليات التي يطرحها العقل العلمي على زميله الميتافيزيقي. وهو عجز سببه الرئيس خوف الشخص من تجاوز حدود الدين. بعبارة اخرى فهو تعبير عن إرادة عفوية بالحفاظ على الفاصل القائم بين العقلين، من خلال فصل شعوري مواز لمجال العمل الذي يطبق فيه العلم الحديث، والحياة خارج نطاق العمل، حيث يستدعي الانسان معارفه وقناعاته التقليدية.