«33» نقد الذات
في بلادنا كثير من المفكرين واصحاب الآراء الناضجة. لكنهم صامتون خوفا من الاذى، أو بسبب ضيق المساحة المتوفرة للتعبير الحر عن الرأي. في الصحافة نعاني من تضخم في الرقابة، وارتياب من جانب الرقباء، وانعدام تام للمعايير المكتوبة، التي على ضوئها يسمح أو لا يسمح بالنشر. لدينا اذن مشكلة الافتقار الى اطارات قانونية ومؤسسية، تضمن حرية التعبير وتحمي اصحاب الآراء من العسف والتحكم. لدينا اخيرا مشكلة الخلط بين الراي والدعوة. فريق من النخبة ينظر الى الراي كأمانة ومسؤولية، ويطالب الكتاب بان لا يقولوا شيئا يخالف قواعد راسخة أو اعرافا جارية، أو متبنيات لهذا الفريق أو ذاك. ويبرون هذه المطالبة بان القلم امانة وان الصحافة المنشورة تؤثر على افكار الناس وعقولهم، وهم لا يريدون للناس ان يعرفوا شيئا سوى ما هو مؤكد الصلاح.
في رأيي ان هذه المبررات وتلك المطالبات كلها سقيمة لا تصح ولا تصلح. الراي ليس أمانة بل اعلان عن معرفة، قد تتفق مع المتعارف أو تتمايز عنه. ووظيفة الكاتب ليست اصلاح الناس، بل التفكير والتعبير عن افكاره. والناس ليسوا دجاجا في حظيرة، كي نتحكم في الغذاء والهواء الذي يصل اليهم، بل عقلاء احرار. أول العلم هو حرية التعبير والنقد والاختلاف. وليس ثمة طريق للتقدم والاصلاح من دون حرية النقد، واعني الحرية المطلقة التي لا تحدها قوانين ولا قيود ولا أحكام ولا اعراف ولا مجاملات.
هذه الاسئلة هي المنطلق في تحديد فلسفة التربية والتعليم. نظامنا التعليمي اليوم يدور في الجوهر حول نقل الموروث الثقافي والتجربة الاجتماعية الى الجيل الجديد، فهو اذن يركز على التواصل والاستمرارية بين الاجيال، ولا يهتم الا نادرا بالتغيير أو القفز على الفواصل الزمنية. الطريقة المتبعة هي ذات الطريقة المعروفة في الكتاتيب القديمة، أي شرح النص واقناع الطالب بان هذا النص هو اطار الحقيقة وحدودها. وهذه الطريقة سائدة في تعليم العلوم الانسانية والعقيدة وفي تعليم العلوم الطبيعية والتجريبية وحتى الرياضيات. فلسفة التربية والتعليم في بلادنا تستهدف اذن انتاج نسخ جديدة عن الجيل القديم مع القليل من التعديلات.
اذا اردنا انتاج جيل مفكر ومنتج للعلم، فنحن بحاجة الى تربية عقل شكاك ومتسائل، عقل متمرد على الاطر والموروثات. عقل يتطلع الى كشف الغيب وليس الوقوف امام جدرانه، عقل يؤمن بالغيب، أي بوجود عالم وراء المشهود والمعروف والمتفق عليه. الايمان بالغيب هو ايمان بوجود أوسع من الوجود المرئي والمشهود، وان الانسان مكلف وقادر في الوقت عينه على الوصول الى ذلك العالم اذا خرق جدار الغيب، أي اذا فكر وجرب وتأمل في الاشياء وحاول عبور السطح الظاهر الى ما تحت السطح من خفاء.
العقل المفكر والعقل المتسائل والعقل الشكاك يحتاج الى بيئة تسمح بالاختلاف، وتقدر المبادرة الفردية ولو كانت مخالفة للسائد. نحتاج اذن الى فهم الذات باعتبارها حرة مستقلة، قائمة بذاتها، شجاعة في ابداع الجديد، لا مجرد ”صامولة“ في الة ضخمة اسمها المجتمع، وظيفتها الوحيدة هي تسهيل عمل الالة أو تكميل الوان اللوحة.