«65» المتاجرة بالدين
في أيامنا هذه أضيفت الى مفهوم ”المتاجرة بالدين“ أبعاد جديدة، يمكن جمعها تحت عنوان ”اتخاذ العمل الديني او الشعار الديني وسيلة للعيش والاثراء“.
يهمني هنا الاشارة الى اني لا أرى اي تعارض بين ان يكون الانسان داعية للدين، وان يكون في الوقت نفسه ثريا، او ان يدعو الناس للزهد بينما يعيش حياة مرفهة. اعلم ان الناس يجدون الأمر متناقضا، لكن رؤيتهم غير صحيحة في رأيي. التعريف الصحيح للزهد هو سيطرة الانسان على النوازع الدنيوية والمادية، بحيث يكون مستعدا للتضحية بها ساعة يضطر للاختيار بينها وبين دواعي الأخلاق والدين أو نداء الآخرة.
من بين التجليات المعاصرة للتجارة بالدين نشير الى السعي للنجومية والنفوذ الشخصي او الحزبي اتكالا على الشعار الديني، او القاء الصفة الدينية على بعض الافعال وتجريد غيرها تبعا لمقاييس الربح والخسارة المادية. ومنها بطبيعة الحال تحريم الحلال وتحليل الحرام من أجل مكاسب شخصية. ومن أبرزها استعمال الدين في السياسة، بمعنى استعمال الشعار الديني او اللغة الدينية من اجل ايصال اشخاص محددين او احزاب محددة الى السلطة.
هذه الافعال تنطوي على خداع للجمهور، لكنه من نوع الخداع المعقد المتطور، الذي يترك آثارا واسعة في المجال العام.
لا بد من التأكيد دائما على انه ليس كل عمل ذي طابع ديني هو جزء من الدين. انا أعلم ان في المجتمع من يميل الى التساهل في القاء الطابع الديني على الافعال العادية. وهذا قد يبرر تساهله بتحبيب الناس الى الدين او تقريبه الى نفوسهم. والحقيقة ان هذا التساهل قد سمح بظهور الاتجاه العكسي، اي منع بعض الافعال المباحة تحت عنوان الكراهة او اي عنوان آخر، كي يبقى الناس على مسافة بعيدة من الحرام الحقيقي.
هذه التبريرات خطرة جدا على الدين، لأنها تنطوي على احتمال الابتداع في الدين، وهو من المحرمات الأكيدة. معنى البدعة هو إدخال شيء في الدين من خارجه، أي اعتباره محرما او مكروها او واجبا او مستحبا، من دون دليل مستقل على هذا الحكم. البدعة في المفهوم الشرعي ليست الاشياء الجديدة او المستحدثة، بل اخراج بعض الافعال من دائرة الاباحة الى دائرة الأحكام، في مستواها الادنى، اي الكراهة والاستحباب، او في مستواها الأعلى، أي الوجوب والتحريم.
فيما يخص الهوس المفرط بالاستفتاء، فاني اتفق معك في ان بعض الناس لديهم هذا الميل. وربما لو اتيح له لسأل الفقيه عن كل تفصيل صغير في حياته، حتى عن لون السيارة التي سيشتريها ومساحة البيت الذي سيسكنه ونوع الشجر الذي سيزرعه في حديقته. لكن الاسوأ من هذا هو استجابة رجل الدين لهذا النوع من الاسئلة. الموقف الصحيح في رايي هو نصيحة السائل بالتفكير او سؤال اهل الاختصاص ثم اتخاذ القرار، واعلامه بأن هذا ليس موضوعا دينيا كي يسأل عنه رجل الدين.
اني اشعر بالقلق من انزلاق رجال الدين في هذا الخطأ. وتصديهم للفتوى في كل مسألة، حتى ان بعضهم بات يفتي في حكم الذهاب الى معارض الكتب، ولون العباءة التي ترتديها المرأة، واهداء الورود الى المريض والتصفيق في الاحتفالات. وهذه كلها من أمور خارج نطاق الدين. وقد نهى ربنا سبحانه عن هذا السلوك الذي يقود الى تضييق سبل الحياة، فقال تعالى ”ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين - المائدة 102“. كما حذر منها نبينا عليه الصلاة والسلام، فقال فيما روي عنه ﷺ ”ذروني ما تركتكم، فإنما أُهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم“.