آخر تحديث: 25 / 4 / 2024م - 5:53 م

التعطش إلى الفنون «2»

ابراهيم الزاكي

كثيراً ما حافظت الفنون على هوية المجتمعات وخصوصيتها. فعلى مر العصور والأزمان كانت الفنون وسيلة في تحديد السمات التي تميز مجتمع عن آخر، وذلك من خلال الأشكال الفنية التعبيرية التي تدل على كلٌ منها، أو من خلال نماذج الملابس وطُرُزها، وزخرفة الجسم وتزيينه، وعادات الرقص أو الأهازيج التي تؤدّى في مناسباتها الاحتفالية، وإلى غير ذلك من أشياء وفلكلور ونقوش وزخارف وفنون، فردية أو جماعية، مميِّزة، تدلل على شخصية كل مجتمع، وتحدد ملامح هويته.

من هنا يأتي حرص الكثير من المجتمعات في الزمن المعاصر على التمسك بتراثها وحفظه من الاندثار، والعمل على إبراز عراقة ماضيها وتطويره، من خلال ربط الماضي بالحاضر، والحاضر بالماضي، كي تتعرف الأجيال الناشئة والشابة على ثقافة وتقاليد الآباء والأجداد، ولألّا تنسى الأجيال المتتالية إرث وتراث الأسلاف، وتظل دائماً متمسكة به. ففي ظل ظاهرة العولمة الثقافية، وما لها من قوة تأثير على الأنماط الثقافية والاجتماعية والقيمية والسلوكية السائدة، فإنه دائماً ما يتم تهميش الثقافات الفرعية، أو يتم عزلها وإقصائها وتجاوزها، حيث يندثر الكثير من تراثها. هذا مع عدم إغفال آثار حركة التحديث التي شهدتها بلداننا على هذه الأنماط، وما أحدثة من تأثير فيها. غير أن حرص المجتمعات المحلية على التمسك بثقافتها وخصوصيتها يمكن أن يساهم في حفظ موروثها الثقافي من الاندثار، بل ويمكن لها توظيف المنجزات الحضارية الحديثة في خدمة موروثها وحفظه وتطويره.

إن الأهمية التي تحضا بها الفنون جعلت المجتمعات المختلفة تحرص على توظيفها في حراكها الاجتماعي، لغرض الحفاظ على هويتها وتماسكها، ليس فقط من خلال إحياء المهرجانات الشعبية، وإقامة المعارض والفعاليات التراثية والثقافية والفنية المختلفة، وإنما أيضاً من خلال استغلال الوسائط التكنلوجية الحديثة في الترويج لها والتعريف بها والدعوة إلى حضورها والمشاركة فيها، ناهيك عن إنتاج المشاهد التي تعبر عن هويتها. فقد شهدت التقنيات الجديدة تطوراً مطرداً جعل من عملية التواصل والاتصال بين البشر أكثر سرعة وسهوله، تحولت معها الفنون من هواية تقتصر ممارستها والاهتمام بها على النخبة، إلى هواية مشاعة تلبي متطلبات عموم الطبقات الاجتماعية.

لقد أصبح للفنون اليوم دوراً مؤثراً في حياة الشعوب، ليس باعتبارها وسيلة للتعبير عن قيم جماعة معينة، وإنما أيضاً لأنها أصبحت لا تنفصل عن أهداف أي تنمية ثقافية واجتماعية. حيث أصبحنا نرى اهتماماً واسعاً بكل أجناس الفنون وأشكالها، في مواكبة للمتغيرات والتحولات التي طرأت وتطرأ على المجتمع الإنساني بأسره. إذ أن هذا الاهتمام لا يقتصر فقط على تلك الفنون التراثية القديمة، وإنما أيضاً على ما يمكن تسميته واعتباره من الفنون الحديثة كالتصوير، والنحت، والحفر، والعمارة، والرسم، والموسيقى، والأدب، والمسرح والدراما المسرحية، والإبداع القصصي والروائي، وفن السينما، وفن تصوير الفيديو، حيث أخذنا نشهد التنافس الإبداعي بين الأفراد، أو بين المجتمعات والدول، في توظيف هذه الفنون للرقي بمستوى شعوبها اجتماعياً وثقافياً ومعرفياً. فالتحركات والنشاطات والمناقشات والتفاعلات التي تجري في تلك المجتمعات والدول تكشف عن مدى حيويتها، وتعبر عن روح التنافس السائدة فيها، ومستوى المشاركة العامة في إنتاج ثقافتها وتشكيلها.

إن ما يلفت النظر ونحن نتحدث عن المهرجانات والنشاطات الثقافية والفنية في منطقة القطيف هو ما يقال دائماً عن مستوى الحضور في هذه الفعاليات، إذ تصف التقارير والكتابات الصحفية التي نقرئها بأن الحضور كان كثيفاً أو مميزاً، أو تصفه بأنه حضور واسع، ومنقطع النظير، أو بأن المهرجان يعج بالزائرين، وأن هناك تفاعل من الحضور مع الفعاليات، وإلى غير ذلك من مفردات وجُمل تأتي في سياق التأكيد على كثافة الحضور، والاهتمام الذي حظيت به هذه المهرجانات وفعالياتها.

والسؤال الذي يجدر الإشارة إليه في هذا السياق هو: ما دلالات هذا الاهتمام؟ وهل هذا الحضور والتفاعل والمشاركة والنشاط والحيوية، والذي تشهده هذه الفعاليات، هو مؤشر فعلي على مستوى الرقي الاجتماعي والثقافي؟ أم أنه من المبكر الحكم على هذا التفاعل، وإعطاء أجوبه دقيقة حوله، كون التحولات الثقافية لا تتحقق بين ليلة وضحاها، وإنما تحتاج إلى فترات زمنية ممتدة حتى تتبلور وتتحول إلى شيء ملموس يمكن أدراكه على أرض الواقع؟

للموضوع تتمة أخيرة..