آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 5:35 م

عنفوان السؤال

منى الصالح

قبل أربعة أعوام، وفي زيارتي للمدينة المنورة، كتبت مقالة حول وضع المرأة، منطلقةً من استقراء حركة الزهراء وانتفاضتها على الوضع القائم في مجتمع الصحابة، مما ينبئ بانتكاسة سياسية واجتماعية، عبر تشويه صورة المرأة ومحق حقوقها السياسية والاجتماعية.. وعبر هذا التاريخ الطويل، بقصد أو من دون قصد، ما زلنا نساعد على بقاء هذا الظلم.

كما أنَّ الثقافة السائدة بفرعيها العام والخاص «الفقه والثقافة الدينية» لعبتا دوراً كبيراً في تكريس هذه الذكورية التي تحرِّك الكثيرَ من مفاصل حياتنا.

وضربت مثالاً بسيطاً وهو حكم تقدم الرجل على المرأة في الصلاة، فثارت ثائرة النساء قبل الرجال، فكيف لي وأنا التي خرجت من رحم المدرسة الدينية، أن أهاجمها، واعتبروا أنَّ الاستفهام الذي طرحته خرق للمقدسات، وتعدٍّ على آيات القرآن الحكيم.

واليوم، حيث وصلتني رسالة جواب لسؤال مقدَّم عن حكم صلاة المرأة والرجل متحاذيان؟ فيصدمني الجواب ببطلان صلاتهما، وإن كان الرجل داخلاً في الصلاة ولم يكن باختياره!

استوقفني الجواب، ولم أستطع أن أتجاوز مشاعر الإهانة التي سيطرت علي.. لماذا وتحت أي تفسير وجب تقدمه وبطلان صلاته وصلاتي بالتحاذي؟! ولمَ لم يكن هذا الحكم تنظيمياً لكيفية الصلاة جماعة في حال اجتماعهما؟

قد أكون مخطئة في مشاعري، ولكن لم أجد سبباً سوى أنني أنثى وهو ذكر، وخاصة أنَّ الحكم عام لا استثناء فيه.

واليوم، ونحن نعيش هذا التسارع المعرفي الذي فتح آفاق ورؤى كثيرة، من المشكل أن نبقى سجناء ثقافة عقلية الثلاثمائة عام السابقة، رغم إيماننا - على المستوى النظري - أنَّ القرآن هو المصدر الأول والأصيل، وأنَّ نظرة واقعية في أغلب كتب الفقه نجد رحى عملية الاستنباط تدور على الأخبار والروايات مما حدا بالسيد محمد حسين الطباطبائي في ذاك الوقت ينقد قائلاً «أنك أن تبصرت في أحد هذه العلوم وجدت أنها نظمت تنظيماً لا حاجة لها إلى القرآن أصلاً حتى أنه يمكن لمتعلم أن يتعلمها جميعاً... وهو لم يقرأ القرآن» الميزان ج5 ص 276.

والمتتبع لفقه المرأة يجد مصاديق لهذه الإشكالية، بل يجد أنَّ جميع إشكاليات المرأة هي في التعامل مع القرآن بسطحية تامة مستندين لقراءة سابقة لزماننا بمئات السنين، وهذا ليس تقليل لجهودهم بل أجد أنَّ البقاء بحرفية تامة على آرائهم هو قتل لفكرهم وتقليل لشأنهم فالفكر الذي لا يثير ألف سؤال وسؤال ولا يلد من يشكل عليه ويناقشه ويؤلف في نقده ويكمل مسيرته هو فكر ميت لا يمكن أن يبث الحياة.

نظرة سريعة تستطلع الأحكام التي استندت لروايات أو لقراءات سابقة، وستجد الكثير من المصاديق التي يراد منا أن نغلق عقولنا أمامها ونقبلها تحت غطاء ديني أو تحت غطاء الخوف على المرأة من استثمارها من قبل المغرضين بطريقة خاطئة.. ويصبح السبب أقبح من النتيجة.

فالوقوف على الكثير من الروايات التي تشكل الثقافة الدارجة من عدم خروج المرأة إلا مرتين أحدهما لبيت زوجها والآخر للقبر، عدم جواز زيارة الوالدين بدون إذن الزوج ولا يجوز لها عيادته إن منعها الزوج، إلى أحكام السفر والخروج بدون إذنه، بل يعتبر من السفر الحرام ولصلاته وصيامه أحكام، لنقف عندئذ واجمين أمام فتوى كثير من الفقهاء بعدم وجوب قضاء الصلاة التي فاتت الأم بخلاف الأب، إلى اعتبار صوت المرأة عورة وما يترتب عليه من أحكام..

بل في كثير من الموارد يساوي الفقهاء بين النساء والبله «النساء والصبيان ومن ليس بمكلف من البله والمجانين» «وأما النساء والصبيان والمجانين فلا..». يقول العلامة الحلي في معرض صلاة الميت: «لا يكفي جنس النساء لأنَّ الرجال أكمل، وتوقع الإجابة في دعائهم أكثر، ولأنَّ فيه استهانة الميت»، بل حتى في الاحتياجات الفسيولوجية الطبيعية الحكم الشرعي بجانب الرجل فيفتون بضرورة تلبية المرأة لاحتياجات الرجل الجنسية في كل وقت شاء، وبالنسبة للزوجة فيجب مرة كل أربعة شهور هذا غير قضايا الإفتاء والقضاء.

اليوم، ونحن في عصر العولمة وثورة المعلومات، نواجه الكثير من علامات الاستفهام التي تحرجنا بها شاباتنا، وهن يطلعن على هذه الآراء التي تتناقض مع عقليتها العلمية واعتدادها بنفسها كإنسانة، هذه الإشكاليات تخلق ازدواجية وتناقض بين ارتباطها بالله وإنسانيتها وحبها للإسلام بقيمه ومبادئه السامية ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ..

وبين فقه يخرج لنا هكذا أحكام كما يشير لذلك الشهيد مطهري وهو يتحدث عن الشعبوية ومجتمع الشعارات فقط موجها كلامه للمشايخ «لينظروا ماذا حل بالإسلام والمسلمين جراء أفكارهم المغلوطة.. لا ينسجم مع الإسلام ولا الإنسانية ذلك التصور الذي يحكم على المرأة بالحبس المؤبد والحرمان من التعليم، ومن كل كمال تحت شعار المحافظة على العفة، فيؤدي ذلك الحبس إلى أن لا يكون».

إذا وجدنا شاباتنا قد ابتعدن عن تدين عهدناه، ونضع ألف خط تحت تدين وليس دين، وسلكن ما لا نرضاه.. فلنتريث قليلاً قبل أن نكيل الاتهامات بالإلحاد والعلمانية والفسق فقد نكون نحن من أرغمناها على المروق؟!

فالعادات والأعراف التي صبغت بصبغة دينية مقدسة حرَّمت علينا السؤال، وحاربت النقاش الحر، واتهمت كلَّ مخالف بالضلال، وحصرت العفة والشرف في عباءة سوداء لا متنفس فيها لهواء وفكر..

وكأننا احتكرنا كل وجودها وإيمانها بلباس أو لون أو رائحة عطر أو صوت، فإذا أردنا أن نحافظ على أصالتنا وهويتنا لا بدَّ لفقهاء الدين والمفكرين أن يتحملوا دورهم في نفض الغبار ونقد الموروث؛ فمجتمعاتنا مجتمعات متدينة الهوى، المحرك الأول فيها هو رجل الدين، وما زلنا نجلُّ الدور الأبوي الذي مارسوه على امتداد تاريخنا في حفظ تماسك الأمة وأصالتها.. وتقف نساء العصر في تطالبهم بفك قيدها ومساعدتها لتبحر بالقرآن والسنة الصحيحة، ولتجد إنسانيتها معتمدة بقدراتها وثقافتها، حينها فقط ستجدون عالمنا يضج بالفقيهات والمفكرات والعالمات.

﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا.