آخر تحديث: 20 / 4 / 2024م - 2:34 ص

معانقة الإيديولوجيا للأبستمولوجيا في مشروع الجابري

وديع آل حمّاد

مؤلفات المفكر المغربي محمد عابد الجابري واقع فكري مشهود لا يمكن إنكاره أو التغاضي عنه أو تغافله من قبل المهتمين بالشأن الثقافي والفكري العربي والإسلامي.

وأبرز جهوده وعطاءته الفكرية تمثلت في مشروع نقد العقل العربي، الذي يعتبر عملاً استقصائياً كبيراً، بذل فيه جهداً مضنياً امتد إلى قرابة العشرين عاماً.

ويعتبر فتحاً جديداً من حيث مقاربة ومعالجة تكوين العقل العربي وبنيته وتأثيره وتأثره استناداً إلى نظرية المعرفة «الأبستمولوجيا» بتوظيفه الهرومنطيقا وو اللسانيات والتحليل السيميائي الدلالي والأنثروبوجيا في بحثه.

وحجم وخطورة تداعيات هذا المشروع بمقدار ما يحمله من شحونات فكرية تتمثل في الأسئلة والإشكاليات المثارة، والحفر في التراث الإسلامي. فلذا تجد المهتمين بالشأن الثقافي في العالمين العربي والإسلامي اتخذوه مادةً دسمةً للنقد والتحليل، وبات موضوعاً للأطروحات الجامعية والمقالات الفكرية.

والقارئ الفاحص المتأمل والمدقق في هذا المشروع الضخم في استقصائه والمهم في موضوعه والمتعدد في أدوات معالجاته لابد أن تتولد في ذهنه مجموعة من الإشكالات والتساؤلات، ومن أبرز التساؤلات التي تولدت في ذهني، التساؤل التالي:

هل هناك تعانق بين الإيديولوجيا والأبستمولوجيا في مشروع الجابري؟

يشترط لنجاح أي مشروع معرفي فكري أن يكون قطب رحاه وركنه الركين ومحوريته هي الحقيقة، المنبثقة من المنهج الأبستمولوجي «المعرفي» المرتكز على الأدوات المعرفية كالسيميائية والهرومنطيقا والتحليل التاريخي، والنأي عن الإيديولوجيا الفاقع فيها التعصب الديني أو المذهبي أو الجهوي أو العرقي أو اللغوي. ولذا ينبغي على الباحث ألا تكون مسبقاته الفكرية المماسة بمعتقداته حاضرة في معالجاته ومقارباته، لما لها من تأثير وتداعيات سلبية على مرحلة استخلاص النتائج وإطلاق الأحكام.

فوجود المعطى الإيديولوجي، لا يمنح الباحث مساحةً لمقاربة ومعالجة الموضوع إلا بمقدار ما يخدم ذلك المعطى، فتجده يبتسر النصوص ويشطرها ويلجأ إلى لوي عنق النص ليحمله ما لا يحتمل من المعاني والمفاهيم بغرض أن يصيره شاهداً على مدعاه الإيديولوجي.

عندما نطوف في مشروع الجابري سنجد أمراً لافتاً فاقعاً، وهو تعانق الإيديولوجيا والأبستمولوجيا تعانقاً بارزاً.

حيث قسم العقل العربي إلى قسمين: خطاب عقلاني، العقل فيه يشكل سلطةً معرفيةً، وآخر عقل مستقيل «الغنوصية، الهرمسية».

ووضع انتاج الفكر الشيعي المعرفي وبعض من رموزه كجابر بن حيّان في خانة القسم الثاني، مردداً مقولة هنري كوربان: ”ليس من العجب أن يكون الشيعة أول من تهرمس في الإسلام“.

هذا الحكم القاسي يثير في النفس الدهشة والغرابة والاستنكار.

قد يقول قائل: هذه استخلاصات تقصيه القائم على منهج علمي، فما الذي يدعوك الى الاستنكار؟

لا أنكر بأن الجابري باحث ذو هامة كبيرة في البحث والتقصي، وقامة فكرية ذات نهج معرفي مميز وثراء واطلاع واسع وعمق في التحليل، فضلاً عن اتسامه بسمة التحمل والجلد والصبر في البحث العلمي، إذ استغرق مشروعة سنوات طوال.

ولكن يبقى مع ذلك السؤال المشروع في هذا المقام هو:

كيف بباحث بمثل هذه القامة الفكرية وبما تملكه من مقومات أن تخفق إطروحاته في كشف تأثير العقل كسلطة مرجعية معرفية حاكمة في الفكر الشيعي؟

أنا لا أعيب على الجابري استخدامه الأدوات المعرفية الغربية في مقارباته ولكن أعيب عليه استخلاصاته واستنتاجاته المجانبة للصواب.

أي قارئ منصف متجرد للفكر الشيعي سيجد سلطة العقل حاكمة فيه، من خلال اعتباره أحد مصادر التشريع. فالعقل ركن ركين، له محورية في دائرة المعرفة الشيعية وليس قابعاً في زوايا الإهمال أو الإقصاء.

كثير من المتبنيات العقدية والتشريعية الفقهية عند الشيعة قائمة على قاعدة الحسن والقبح الذاتيين العقليين.

ويقول الأستاذ حفني حامد داوود في هذا الصدد: ”إنَّ الشيعة الإمامية كانوا يأخذون في الكثير من مواطن الأحكام الدينية بمنهج العقل بقدر أخذهم بمنهج النقل. وأنَّ رأيهم في الحسن والقبح الذاتيين هو رأي جهابذة المعتزلة“.

والبرهنة والاستدلال على إثبات الخالق من خلال برهاني النظم والصديقين دليل واضح على مكانة العقل في الفكر الشيعي، وكذلك اعتماده على قاعدتي شكر المنعم ودفع الضرر المحتمل في معرفة أصول وأسس الدين.

وأما الموروث الحديثي المعتبر عند الشيعة حافل بكم هائل من المرويات التي تشيد بالعقل وتضعه في مرتبة عليا، نذكر بعضاً منها:

يقول الإمام علي : ”لا غنى كالعقل ولا فقر كالجهل، ولا ميراث كالأدب، ولا ظهير كالمشورة“.

يقول الإمام الباقر : ”إن الله تبارك وتعالي يحاسب الناس على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا“.

وهنا نسأل الجابري: هل استقصاؤك البحثي عجز عن معرفة من يطلق عليهم الحكماء السبعة «الفارابي وابن سينا وابن رشد والسهروردي والخاجة نصير الدين الطوسي والميرداماد وملا صدرا الشيرازي»؟

أليس هؤلاء - نصير الدين الطوسي والمحقق الداماد وملا صدرا - من عظماء الفلسفة الإسلامية وهم من الشيعة؟

بماذا نبرر ذلك؟ لماذا لم ير ميكرسكوبك الإيديولوجي من هؤلاء إلا ابن رشد فقط؟

وأما اذا أنعمنا النظر في موقف الجابري من جابر بن حيان فمن الطبيعي أننا سنعيش في دائرة الاندهاش والغرابة، وكيف لا نعيش في دائرة الغرابة والاندهاش ونحن نرى هذا الكيميائي المشهور يوصمه الجابري بالهرمسية ووضعه في خانة العقل المستقيل.

هل من الإنصاف أن نصف رجلاً له مؤلفات تحظى باحترام وتقدير بالغ واهتمام واسع من قبل الصروح العلمية الغربية بالهرمسية ونعتبره مظهراً من مظاهر تخلف الفكر الإسلامي!

لا أعتقد أن حبل استقصاء الجابري قد انقطع عن قراءة كتب جابر بن حيان التي تعلي من شأن العقل ككتاب «الحدود» الذي يعد أول كتاب فلسفي باللغة العربية، وكتاب «الخواص الكبير» في المنطق.

وفي الختام أقول:

إنَّ مصدر إخفاق الجابري في معرفة مكانة العقل لدى الشيعة، ليس المنهج المعرفي الذي انتهجه، بل إيديولوجيته التي لم يستطع أن يتحرر من أغلالها وقيودها، فبات أسيراً لها في مشروعه البحثي، فلم يعد يرى الأشياء والأمور كما هي لكثافة ضباب الإيديولوجيا الحاجب للأبستمولوجيا المنهجية عن وصولها إلى الحقيقة وتوصيفها الواقع كما هو.