آخر تحديث: 24 / 4 / 2024م - 10:27 ص

تحديات التحديث الثقافي والسياسي بالمملكة

محمد الحرز * صحيفة اليوم

تحديث المجتمع والثقافة أكثر صعوبة من تحديث الدولة. لكن التوازن في التحديث بينهما هو الرهان على نجاح أي مشروع من هذا القبيل. المملكة تسير بهدوء في هذا الاتجاه، رغم ما تمر به المنطقة العربية، وما تحيط بها من نزاعات وصراعات وعدم استقرار سياسي وأمني منذ الثورات العربية عام 2011م.

الناظر جيدا لمآلات الأمور فيما يخص تاريخ تحديث الدول العربية وأنظمتها ومؤسساتها لا يسعه إلا أن يضع في اعتباراته الأسباب التي أدت إلى إخفاقات مشاريع التحديث وتلك التي نجحت، كي لا تتوه البوصلة عن النتائج الكارثية وآثارها على المجتمع والدولة معا من جراء الفشل. والأخذ بالأسباب ودراستها يلقي بعض الضوء على جانب مهم من تجربة التحديث التي مرت بها بعض الدول تاريخيا، ويفسح في المجال أيضا من خلال مقارنة الظروف الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية المحيطة بعملية التحديث، بمثيلاتها في التجربة الراهنة، أن تتوسع الأذهان من أجل وضع تصورات جديدة قادرة على دفع مسيرة التحديث إلى الأمام.

حدوث مثل هذا الأمر للدارسين والباحثين يسهل عليهم فهم تحديات التحديث التي تواجهها المملكة على جميع المستويات والصعد. ويفتح الباب على مراجعات شاملة في التاريخ السياسي والاجتماعي والاقتصادي للبلد من شأنها أن تدعم من العمق رؤية 2030 بما ينسجم والتوجهات الاستراتيجية لهذه الرؤية. لكن الصعوبات الكامنة خلف تلك المراجعات على ما أظن لا تتعلق بالتخطيط ووضع الاستراتيجيات والأنظمة، ولا تتعلق بنقص في الكوادر الوطنية القادرة على النهوض بالرؤية، ولا بالتحشيد الإعلامي والمؤسساتي والمنبري. بل هي صعوبات تتصل بالأذهان والعقول، وهذا ما يعيدنا إلى العبارة التي صدرنا بها المقالة، حيث تحيلنا إلى مواجهة ذواتنا عبر استرجاع تاريخها الشامل استرجاعا يحقق لاحقا نقلة نوعية في طرائق التفكير والعيش والاجتماع. هل يسمى هذا نوعا من الطموح الإيديولوجي ذات النظرة المثالية أم أنه طموح واقعي ومنطقي وموضوعي له القابلية للتجسيد والتحقق؟!

والسبب الذي يجعلني أطرح مثل هذا السؤال هو أن المسألة في ظني ليست في تصنيف التحديث في ثنائيات متقابلة، ننشغل بها في الخطاب المتداول ولا نخرج من استقطاباتها، بل في إبراز صعوبة التحديث الثقافي والاجتماعي إزاء التحديث السياسي. الأول إذ يتعلق بالحفر في العقول والأذهان فإنه يفضي بالتالي إلى إزالة قناعات وأفكار إيديولوجية وتصورات حياتية ووجودية واستبدالها بأخرى، وما بين الإزالة والاستبدال يكون الزمن بطيئا ولا يمكن الشعور به بين مجرى الأحداث وتطوراتها إلا عند أصحاب الحدوس الكبرى في التفكير.

لذلك التغلب على تلك الصعوبة وتفكيكها يستلزم عدة أمور ذات أفكار عملية: أولا: استنهاض مؤسسات التعليم الجامعي بما يسمح لفتح فروع من العلوم الإنسانية كالأنثروبولوجيا وعلم الأديان المقارن والفلسفة الاجتماعية.. إلخ داخل قاعاتها. ثانيا: إنشاء مراكز بحوث مستقلة في جميع أنحاء مدن المملكة تدعم هذه الفروع وتزودها بالمعلومات والدراسات المحكمة، وتكون في الغالب موجهة لدراسة المجتمع دراسة انثروبولوجية ونفسية وتاريخية. ثالثا: التشجيع عبر الإعلام المرئي والمقروء أو عبر شبكات التواصل الاجتماعي لإنشاء منصات حوارية شعبية غير مركزية وغير متخصصة في شأن أو مجال معين، وتكون مفتوحة للجميع سواء للأفراد أو للأسر والعائلات.

هذه المنصات تكون بمثابة مسارح مصغرة أو مقاه ثقافية. صحيح أن ثمة تقاطعات بين هذه الأفكار المقترحة، وبين بعض مجالات الرؤية 2030 كما في الخطط التي تضطلع بها هيئة الترفيه. لكنها بالنهاية يمكن وضعها كإحدى الروافد المهمة التي تدعم مسيرة الهيئة وعملها من جهة، وتضع لبنة أخرى في مسيرة التحديث الاجتماعي والثقافي. فإذا كان التحديث كما في رؤية هيئة الترفيه عن طريق استنهاض الفن في المجتمع بجميع أشكاله واستثماره، فإن التركيز على تاريخ الإنسان على هذه الأرض ومعرفة أبعاده الاجتماعية والثقافية والروحية والسياسية هو من صميم التحديث الفكري، وكلاهما في ظني يكملان مسيرة بعضهما البعض.

أما الثاني «التحديث السياسي» إذ يتعلق بالاجتماع البشري فإنه يرتبط أساسا بتنظيم مصالح الناس ورعايتها والحفاظ عليها. وعليه فإن هذا الارتباط سريع التغير بالضرورة، يخضع لاعتبارات لا تتصل فقط بالشأن المحلي أو الداخلي في سياق عملية التحديث، وإنما تتصل - وهذا هو المختلف عن التحديث الثقافي الاجتماعي - بالعلاقات بين الدول، وبالأطر والقوانين الدولية، وبالالتزامات بالاتفاقيات والعقود الاقتصادية والتجارية المتبادلة. وهذه جميعها تدخل كعوامل موضوعية مؤثرة في مسيرة التحديث السياسي. لكنها أيضا ليست بالضرورة خاضعة كلية له.

من خلال ما قلناه قد يبدو للوهلة الأولى انحسار الوشائج بين التحديثين، إلا أن المتأمل يدرك استحالة ذلك بيد أن السبب في هذا الوهم هو أن التحديث الثقافي الاجتماعي دائما ما يذهب إلى القاع الاجتماعي ويختفي هناك ولا تتفاعل مركباته إلا بحركة بطيئة بينما التحديث السياسي يأتي من القمة ودائما ما يكون مرئيا وملاحظا ولكن برؤية معقولة وحكيمة، حيث التحديث بين هذا وذاك هو التوازن الذي تسعى إليه المملكة بقياداتها الحكيمة.