آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 11:37 ص

«الثقوب السوداء»

ميرزا الخويلدي * صحيفة الشرق الأوسط

يبعد أقرب ثُقبٍ أسود في هذا الكون الفسيح عن الأرض مسافة 1600 سنة ضوئية، الشمس لا تبعد عنا سوى ثماني دقائق ضوئية فقط، وظلّت تلك الثقوب هاجسا محيرا لدى العلماء. فيلم «بين النجوم» «interstellar» الذي أنتج عام 2014 حاول الاقتراب من هذه الثقوب بشكل علمي ومثير، حين قاد بطل الفيلم «الممثل الأميركي ماثيو ماكونهي» سفينة فضائية داخل ثقبين أسودين، والمفاجأة أن رائد الفضاء يكشف أن أحد هذه الثقوب يؤدي إلى كواكب جديدة تفتح أبواب الأمل في حياة أفضل لسكان الأرض، إذا تمكنوا من الهجرة إليها.

تتمتع الثقوب السوداء بجاذبية خارقة، يمكنها «شفط» كل ما يقترب منها من أجرام أو نيازك أو كواكب أو نجوم، وهذا سر قوتها. أما على الأرض فنحن نعاني أيضا من «ثقوب سوداء»، تمتلك قوة الجذب، وسر الغموض، لكنها بدل أن تمنح الأمل تصنع الوهم والتضليل.

الثقوب السوداء تصنعها فضائيات وقنوات وشبكات تواصل تغرقنا كل حين بكمية كبيرة من الأخبار والتقارير والتعليقات والتحليلات والصور الزائفة، تسخر من عقول الناس، وتمنحهم وجبة مسمومة، ووعياً مشوهاً.

غرف سوداء، تصنع لنا تعليقات تبعث على الإحباط وزرع اليأس في النفوس. وتعمل على تشويه الحقائق وتحريض الرأي العام، والتقليل من أي منجز، وتسطيح أي فعل إيجابي، وصولا إلى تعميم الكآبة والشعور بالقهر والإحباط. لماذا؟ لكي يوصلوا الناس إلى لحظة الانفصال الشعوري عن محيطهم، ومعاداته، والاشتباك معه، وتدميره.

ثقوب سوداء أخرى، تعمل على المناكفة السياسية العمياء. لا تتورع في استخدام وتصنيع أدوات التزييف والتحريف والكذب. وهي تمطرنا بأخبار مغسولة وتحليلات منمقة وضيوف متنوعين يملكون البلاغة والصوت العالي، لكنهم يروجون أكاذيب وأباطيل فارغة.

آخرون أيضا يستخدمون الملتيميديا ووسائل التواصل كثقوب سوداء، يمتصون فيها عقول الناس ووعيهم، عبر تعميم ثقافة الكراهية والاحتراب والحقد والانقسام الاجتماعي. تكشف دراسة إحصائية على وسائل التواصل الاجتماعي، أن نحو 7 ملايين مشاركة باللغة العربية صيغ أغلبُها بلغة طائفية ومعادية للأديان خلال عام واحد، خرجت أغلب هذه التغريدات من دول الخليج.

أصبح المتلقي أسير هذا القصف اليومي الذي لا يتوقف، ولا يحترم إنسانيته، ولا يدير بالا لوعيه وكرامته. مئات من التقارير يجري تركيبها لصناعة الحقد؛ إما أن تحقد على وطنك، وإما أن تحقد على أبنائه، وإما من أجل الاستلاب والهيمنة والبرمجة الثقافية، وصناعة ثقافة القطيع.

حتى الوعظ الديني صار يتوسل بالحكاية المفبركة، والقصة الكاذبة، والأحلام والخيال والمعجزات المفتراة، والكلام المرسل، والنصوص غير الموثوقة. وصار البعض يتفنن في حياكة الأساطير، من أجل استخدامها في الوعظ والتخويف والهيمنة على مشاعر الناس وعواطفهم.

لقد تنبّه اليونانيون منذ ثلاثمائة سنة قبل الميلاد إلى أهمية الشك المنهجي كطريق للوصول إلى الحقيقة، نحن اليوم لا يمكننا أن نحجز عقولنا في علب السردين، أو نؤجر أدمغتنا شققا مفروشة ل «شبيحة» الفضائيات وشبكات التواصل، لكي تملأها بضاعة مسمومة، ووعياً زائفاً.