آخر تحديث: 20 / 4 / 2024م - 2:34 ص

«عطنا وجه يا دكتور»!

سراج علي أبو السعود * صحيفة الشرق

مهنة الطب هي مهنة إنسانية ربما تكون من أكثر المهن نُبلاً، ولأنها مهنة خدمية وتتطلب ملاقاة الجمهور باستمرار فإنها تحتاج لقدر كبير من الأريحية وسعة الصدر والقدرة على الاستماع الجيد للمريض ومنحه القدر المقبول من الوقت لإبداء رأيه، عدم تفهم نسبة من الأطباء هذا الأساس يتبلور في سلوك استعلائي على المرضى يظهر عادة من خلال رفض الاستماع لهم والإصرار على تجاهل آرائهم والتعامل معهم بصفتهم أشخاص غير متخصصين لا ينبغي أن يتحدثوا بلغة ندية ترقى لمرحلة النقاش، وبالنتيجة يبدي الطبيب امتعاضاً شديداً من المُراجع الذي يريد الفهم، وربما لا يتمالك نفسه ليصفه وبشكل صريح بالجهل أو بالسخرية الصريحة منه.

ما لا يستطيع بعض الأطباء إدراكه هو أن الإنسان في هذا العصر يمكن له أن يطَّلع على كثير من الآراء الطبية المنشورة، كما يمكن له أن يتصل بأفضل وأكثر علماء الطب شهرةً ليسألهم، عدم إدراك نسبة من الأطباء ذلك يجعلهم أحياناً يتجاهلون كلامه وينظرون للفرضيات التي يطرحها باستخفاف يصل أحياناً لحد السخرية، الحادثة التي نقلها لي أحد المرضى بدأت حينما بذل كثيراً من الوقت والجهد في القراءة عن حالته وطرح ما توصل إليه إلى دكتور ذي درجة علمية رفيعة أصر بكثير من العناد والاستهتار على عدم الاستماع له، لا أقصد بعدم الاستماع هو رفض الحديث، ما أقصده هو تجاهل اعتبار ما يقوله المريض أسباباً منطقية لإعادة التشخيص أو تحويله لأطباء أكثر تخصصاً منه، النتيجة هي أن هذا المريض وبعد كثير من العناء والواسطات و«حب الخشوم» استطاع الانتقال لمستشفى آخر اكتشف صحة كل ما بحث عنه من إصابته بأحد الأمراض المزعجة، الإجابة المعلبة الجاهزة لهذه الحادثة هو أن يبرر مثل هذا الطبيب القضية بالخطأ غير المقصود، وهذا التبرير يصح جداً وصفه بأنه أقبح من ذنب، يرفض الاستماع!! يتجاهل ما يبديه المريض!! يصر على عدم وجود مبرر علمي للخوف رغم الإصرار والتفاني على إثبات المريض له بأنه لا يأتي بمعلوماته من مصادر غير علمية!! ثم أخيراً إذا ثبت صحة كل ما قاله المريض يتفرغ هذا الدكتور بتبرير سلوكه بأن الخطأ وارد!! الحديث ليس عن الخطأ، الحديث حول الإصرار على اعتبار الناس سذجاً وغير متخصصين وليست لهم آراء ترقى لمرحلة الاستماع فضلاً عن النقاش فيها، الإصرار على اعتبار الناس مجموعة من الجهلة الذين ينبغي لهم أن يلتزموا الصمت تماماً ولا يتفوهون للطبيب إلا بالموافقة والتسليم، هذه هي المشكلة.

لا شك أن الإيمان بالتخصص واحترام العلماء هو أمر مهم، ولكن لا ينبغي للعلماء أن يفترضوا في كل وقت أن الناس مجموعة من الجهلة والأغبياء غير المتخصصين، الإنسان في مثل هذا الزمان يستطيع الوصول إلى كافة البحوث العلمية المنشورة، كما يستطيع عرض حالته على متخصصين آخرين، وبالنتيجة ينبغي على المتخصص بالحد الأدنى أن «يسمع» وأن يفترض أن هذا العالم يوجد فيه متخصصون غيره يملكون آراء مخالفة له ويمكن لآرائهم أن تكون صحيحة، ينبغي عليه أن يعطي الناس «وجه» لأنهم يستطيعون أن يسألوا غيره من المتخصصين ويصلوا إلى آراء علمية أخرى، عدم التحلي بذلك هو صفة مقيتة تدل على مزيج من العصبية والجهل والغرور في هذا المتخصص، قد تتسبب بمجموعها في نتائج كارثية تجعل الإنسان هو الضحية التي - مع الأسف - لن تسمع أخيراً من هذا العالم حينما «يطيح الفاس في الراس» إلا كلمة «آسف» المضحكة، وربما لا تسمعها أبداً.