آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:57 ص

مَاءٌ ومِلْح

ليالي الفرج * صحيفة الشرق

هل يمكن أن يعيش الإنسان دون مِلْح؟.. هذا السؤال الذي يفتتح الحديث لن يجد معظمنا، إن لم يكن أجمعنا، صعوبة في إجابة استفهام بدهيٍّ كهذا الذي تصدّر أول أنفاس هذه السطور. لكنّ ورود الملح هنا إنما هو أحد ضلعي الزاوية الحادّة في الحياة. فتظهر ثنائيتا الماء والملح ضمن مركبات الأرض، وكثيراً ما تكون الإيجابية والانسجام في تعاضدهما أو ظهورهما المشترك.

ومع أن الماء هو المكوّن الأساسي في الخلية الحيوية؛ بمعنى أن الحياة لا يمكن أن تتوفر إلا بوجود مركب يستحق أن يحمل صفة مركب الحياة؛ والمولى عزّ وجل يقول: «وجعلنا من الماء كلّ شيء حيّ، أفلا يؤمنون». لكنّ الملح قد يأتي منفرداً أحياناً، في غياب عن الماء، وهذا لفوائد مجرّبة، كما هو الحال حين استعمل كثير من الشعوب أو البلدان الملح منذ القدم في حفظ الأطعمة؛ بتجفيفها أو معالجتها بالملح، إلى درجة صار التعبير العربي: من يُصْلِحُ المِلْحَ، إذا المِلْحُ فَسَدْ. وهذا المعنى هو ما قيل في عبارة أخرى مشابهة: فما حيلتي يا قوم لو فسد الملحُ. وفي التراث الشعبي، نقرأ ما يقارب معنى العبارتين كذلك، ومن ذلك: الملحْ دَوّدْ، وهو من الأمثال التي قد تقال حينما تفسد أخلاقُ مَن كانت الاستقامة من سجاياه.

ليس هذا فحسب، بل إنّ الملح قد «يتضايف» إلى كلمة للدلالة بما فيه إطراء، كما في قولهم: أنتم ملح الأرض، أو ما يأخذ موقعاً وتبويباً ضمن معجم الأقوال الشعبية في أكثر البلدان مثل القول المتكرر في الشعبيات المحلية: بيننا عيش ومِلْح، الذي لا يتطلب عناء في الوصول إلى معناه.

ومن الطريف أن يكون الملح، حتى منتصف القرن التاسع عشر، سلعة نادرة، إلى درجة أنها كانت تفرض ضريبة عليه في بعض الأماكن من العالم، باسم «ضريبة الملح»!

ولا نستغرب إذا علمنا أن عديدا من الحروب القديمة قد نشبت بسبب الملح، وكانت «مسيرة الملح» التي تزعمها الزعيم الهندي ألمهاتما غاندي إلى شاطئ جوجارات للمطالبة بجلاء القوات البريطانية، هي نقطة التحول في تاريخ الهند الحديث؛ حيث كانت بداية لانحسار السيطرة البريطانية على الأراضي الهندية.

ويبرز الكاتب الأمريكي «مارك كيرلانسكي» في كتابه «تاريخ الملح في العالم»؛ حيث تناول الكاتب عديدا من القصص الطريفة التي ارتبطت بالملح، فيذكر أن «السلاطة» اشتق اسمها الإنجليزي «salad» من كلمة «salt» الإنجليزية، إذ إن الرومان كانوا يحبون إضافة الملح إلى خضراواتهم، وكذلك كان الجيش الروماني يدفع لجنوده رواتبهم في شكل كميات من الملح!.. هذا الكتاب - الغني بالصورة يعتبر ارتحالا عبر التاريخ والثقافات المختلفة؛.. ولذلك يمكننا القول بأن العالم، حسب نظرة كيرلانسكي، يمكن رؤيته من خلال قطعة بلورية هي الملح.

يبدو أننا أمام حكاية جاذبة أكثر لمواصلة قراءة باقي السطور، وهذا استحقاق لهذه المادة التي يختلط تاريخها مع تاريخ الحضارات الإنسانية الكبرى منذ السومريين وحتى اليوم، ومروراً بالبابليين والمصريين القدماء والصينيين وحضارات حوض البحر الأبيض المتوسط والبحر الميت وإفريقيا والحضارات الأمريكية.

غير أنّ بيت القصيد هو ما يصيب بعض المدن أو البلدات بسبب عدم توفر المياه المحلاة لسبب أو آخر؛ وضمن الأسباب عدم صلاحية شبكات نقل المياه داخل هذه المواقع، وما زالت الوعود تتكرر ولكن حتى الساعة لم يصل سوى الملح المخلوط بالماء؛ على طريقة تعبير المَفارقَات، فمكون الماء الماء المالح يتلف كثيرا من أجهزة المنازل بكل مرافقها، ولا يتأخر ملح هذا الماء بتكلساته عن الفتك حتى بالحنفيات المزدوجة في المنازل، وإن كانت ذات علامة تجارية متميزة، فضلاً عن فوضى المنتجات الشرقية التي شوّهت كثيراً من جودة المنتجات التي كانت تصل إلى بلداننا في السبيعينيات والثمانينيات.

هذا طرف من الخسائر التي يتحملها صاحب المنزل الذي لا تصله سوى تغذية المياه المالحة، فتضر بالأجساد صحياً، وعلى الجيوب مادياً. أما الطرف الآخر، فحين يتم تساوي احتساب تكلفة الاستهلاك للمتر المكعب أو اللتر أو لأي وحدة سعة، بين المستهلك الذي تصله المياه المحلاة، وهو ماء عذبٌ فراتٌ سائغٌ شرابُه، وبين عاثر الحظّ بعدم وصوله إلا الملح الأجاج المختلط بمركّب الحياة.

كاتبة رأي في صحيفة الشرق السعودية
شاعرة ومهتمة بترجمة بعض النصوص الأدبية العالمية إلى العربية ، ولها عدَّة بحوث في المجال التربوي.