آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 10:36 م

الأديان وبناء الحضارات

محمد الحرز * صحيفة اليوم

الأديان هي نصوص مؤسسة في التاريخ البشري، لا يمكن أن ينحسر تأثيرها أو تتلاشى قوة حضورها، مهما كانت فاعلية التحولات المفصلية التي تطال مجمل التشكلات الفكرية والاجتماعية للإنسان عبر التاريخ.

حدث ذلك مع المسيحية والإسلام تحديدا؛ لأن بهما تأسست حضارة، واحدة في الشرق وأخرى في الغرب. بيد أن هناك حضارات أخرى قامت في الهند والصين وبلاد فارس ومصر القديمة وبلاد ما بين النهرين سوى أن كتبها المقدسة التي ارتبطت بمسيرة مجتمعاتها لم يسعفها التاريخ بسياقاته المتعددة: السياسية والاجتماعية والثقافية والجغرافية والاقتصادية، ببناء حضارة متعددة الأوجه والقوة والحضور والتأثير.

صحيح أن اليهودية في تحولاتها الفكرية والسياسية والدينية والاجتماعية هي أقرب للمسيحية وصحيح أيضا أن الارتباط العضوي والبنيوي الذي يراه الغرب من وجهة نظره «وهي نظرة تغلب عند الكثير من مفكريه وسياسييه» إحدى السمات الكبرى التي تجمع اليهودية بالمسيحية. غير أن ما يتم التغافل عنه هنا من وجهة نظر بناء الحضارات هو سيرورة تشكل الحضارة نفسها تاريخيا داخل مجال المجتمعات، فالتباين في المعتقد باعتباره العنوان الكبير على التمايز في الهوية والذات، لا يعني بالضرورة التباعد أو الانفصال فيما يخص المسارات الأخرى في العلاقات بين التجمعات البشرية سواء كان منها الاجتماعي أو السياسي أو الفكري أو الاقتصادي.

وهكذا حدث نوع من الالتباس، سواء كان مقصودا أم غير مقصود، فقد طغى عند بعض الدارسين أو المؤرخين بصورة اختزالية موقف لا يرى العلاقة بين الحضارتين إلا من منظور التباين العقائدي، أي ذلك المنظور الذي كرس صورة الحروب الصليبية، وما تلا ذلك من سرديات تاريخية نمطية تأسست منذ القرون الوسطى إلى العصر الحديث.

لذلك، حين ينظرون إلى بقية المسارات الأخرى في العلاقات البشرية، ويحللون منجزاتها لا يبتعدون كثيرا عن هيمنة تلك السرديات مهما تذرعوا بالمنهجيات الحديثة في المعرفة الاجتماعية والفكرية والفلسفية. المفارقة الكبرى التي تأتي ضمن هذا السياق أن تلك الصورة النمطية لم تختف تماما لا من حقل الدراسات المقارنة، ولا من المخيلة الأدبية السردية الغربية، رغم ما راكمته الحداثة والتنوير من تراث نقدي ومراجعات طالت كل الجوانب التاريخية والثقافية والمعرفية. وما زاد الطين بلة هو الاستثمار السياسي الذي جاء عن طريق الاستعمار أولا مصحوبا بخطابات استشراقية، وعن طريق الهيمنة الاقتصادية والتبعية السياسية ثانيا.

غير أن النتائج الكارثية التي حلت على مجتمعات شطري المتوسط؛ جراء هذا الاستثمار أو التوظيف، لم تخل من وجود خطابات ثقافية وأصوات نقدية جادة، ترى وجوب التخلي عن القراءات الإيديولوجية المسبقة الموروثة ضد الحضارة، والبدء بإعادة قراءة التراث من منظور تاريخي، أي محاولة وضعه في سياقه الاجتماعي والثقافي في فضاء القرن السادس الميلادي للجزيرة العربية.