آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 9:19 م

العلم والإيمان أساس الكمال الإنساني «11»

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين.

في الحديث عن سَماعة بن مهران قال: «كنت عند أبي عبد الله وعنده جماعة من مواليه، فجرى ذكر العقل والجهل فقال أبوعبد الله : اعرفوا العقل وجُنده، والجهل وجُنده تهتدوا...» [1] .

نشوء الدولة الصفوية:

يمر الفقيه عبر مسيرته بالكثير من محطات التوقف، فيأخذ منها ويعطي لها بقدر ما هو عليه من سعة الأفق ودقة النظر.

والصفويون والدولة الصفوية من المحطات التي توقف عندها كثير من الفقهاء فاستفاد منها جمعٌ منهم، كما استفادت الدولة الصفوية أيضاً. وهذه الصفحة من تاريخ الأمة الإسلامية مشفرة من جهة وملغّمة من جهة أخرى، وبين التشفير والتلغيم دوائر حمرٌ كثيرة تمازجها دوائر بيضاء. ولا شك أن الاقتراب من منطقة الخطر يكلف الكثير من الضرائب، رغم أن الثمار الكثيرة يمكن أن تجتنى رغم ذلك، وكذلك الإحجام عنها يكلف كثيراً، بل لا زال إلى يومنا هذا يكلف الكثير.

فالدولة الصفوية نشأت ابتداءً في أردبيل من شمال إيران [2] ، ثم امتد نفوذها واتخذت من إصفهان عاصمة لها، وكبرت المدينة وتطورت حتى قيل فيها: إصفهان نصف الدنيا. وكانت الخيل تضرب فيها أسبوعاً، ما يدلل على ما كانت عليه من الثراء الفاحش والتمدد العمراني الرهيب.

وبطبيعة الحال أن ذلك يصاحبه ما يصاحبه، من الوعي والفكر والثقافة والفن والجمال، وبقدر ما يكون لمساحة الانفتاح حيزها الكافي الذي تقدمه لمن أراد أن يتحرك من خلالها بقدر ما تعطي تلك المساحة من ثمار.

كان الشيخ صفي الدين الأردبيلي متصوفاً سنياً شافعي المذهب، وشيخاً من شيوخ الطرق الصوفية. وكانوا منغلقين على أنفسهم، لكن أبناء هذا الرجل تحركوا وانطلقوا من حالة التقوقع والانطواء على النفس ودعوى السير والسلوك والصفاء والارتقاء حتى الاتحاد مع الذات المطلقة والعياذ بالله، إلى حالة الواقعية.

يعود أصل الصفويين للأصول التركية، وهم أبناء عمومة بني عثمان [3]  خلفاء الدولة العثمانية، الذين امتد نفوذهم وسلطانهم أيضاً إلى مساحات بعيدة جداً. والأصول النسبية بين هذين الفرعين كانت تلقي بظلالها بقوة على الحراك السياسي في مشهد الدولتين الذي انتهى في نهاية الأمر إلى أنهر من دم، إذ دفع الأبرياء البسطاء الفقراء المسحوقون من أبناء الأمة الإسلامية شيعة وسنة ضريبة تلك النزوة التي كانت في عقلية هؤلاء وأولئك.

فالدولة الصفوية تأسست بناء على هذا الأمر وتحركت واتسعت، فأسست ثم ثبّتت ثم انطلقت بعد ذلك، وكانت تحتاج إلى روافد، ومنها الفقيه، فكان لا بد لها أن تضع يدها على ذلك. وأي دولة إسلامية إذا ما أرادت أن تبسط يدها على أي ملف فلا مناص لها من أن تضع يدها على الملف الديني المتمثل بالعلماء المنحل عنهم الفتوى. من هنا نجد أن الفتوى خطيرة جداً، ففيها تحقن الدماء أو تراق.

في تلك المرحلة كانت المدرسة الإخبارية هي سيدة الموقف في أغلب البقاع وأكثرها، وكانت المدرسة الأصولية تتحرك بخجل وثبات أيضاً، لأن الحكام عبر التاريخ ينشدون المصلحة المضافة للدائرة الضيقة، وفي الأعم الأغلب كانت غربلة المشهد بناء على معرفته المسبقة، بأن يأخذوا بالملف على نحو التوازن، بتحريكه عند الحاجة، وإغلاقه عندما لا تفرض الحاجة نفسها.

وتكاد تكون صفحة المدرسة الإخبارية في الظاهر قد طويت، لكن مع إمعان النظر والتدقيق نجد العكس من ذلك، وسيأتي الكلام عن بعض النقاط المساعدة على هذا المدعى. ففي الظاهر كانت المدرسة الإخبارية تطوي بساطها، وكانت المدرسة الأصولية على حساب ذلك تتمدد وتتوسع.

تشيع الدولة الصفوية:

والبعض منا  بل ربما الأغلب  يعتقد أن الدولة الصفوية اختارت مذهب أهل البيت بناءً على رؤيا في منام مثلاً. إما بسبب سماع ذلك من خطباء غير متثبتين، أو أنه قرأ كتباً تم سوق الحديث فيها لحاجة في نفس يعقوب. لكن المسار الآخر يرفض هذه القضية ويعتبرها حالة من الاستخفاف بعقل الباحث، فما وراء ذلك أكبر وأخطر، فلا تُختزل قضية بناء دولة في ملك رأى رؤيا في منام ورتب عليها الآثار.

إن التحول المذهبي في إيران كان قبل الدولة الصفوية، وقد قيل في سببه أن السلطان محمد خدابنده المغولي «أي عبد الله» غضب يوماً على زوجته فقال لها: أنت طالق ثلاثاً، ثم ندم، وجمع العلماء، فقالوا: لا بد من المحلل، فهي مطلقة ثلاثاً، إلا أنه لم يكتف بذلك فسأل عن سائر المذاهب، ثم دعا العلامة الحلي فحضر، ودارت بينه وبين علماء العامة مناظرة معروفة، حتى أفتى له بأنها مطلقة تطليقة واحدة، ويجوز له الرجوع إليها، فاعتنق السلطان المغولي مذهب أهل البيت . فجذور التشيع كانت موجودة قبل الدولة الصفوية.

والمسلك الثاني يرى أن صراعاً خفياً بين أبناء العمومة هو الذي أدى إلى ذلك، أي بين الصفويين والعثمانيين، فالملف السياسي بينهما كان لا بد له من الاتكاء على جانب مذهبي، ولا بد أن يكون الجانب المذهبي متعاكساً 180 درجة، فالأستانة كانت تدين بالمذهب الحنفي، وغالبية إيران كانت من الشوافع مع قليل من الأحناف والشيعة، وميول الشوافع لأهل البيت في مساحة الحب والعاطفة كبيرة، وهذه الحالة من العاطفة والحب كان الأقرب إليها والأكثر جدوائية هو مذهب أهل البيت وكانت المحبة لمحمد وآل محمد هي المحرك القوي، وعلى أساس منها يمكن أن يكون الملف بيد الشاه موازياً للملف الآخر بيد الخلافة العثمانية. وقد عمل العلماء على تثبيت أركان تلك الدولة، فكان المحقق الكركي والعلامة المجلسي وغيرهما ممن عمل فيها ودعم أركانها.

فالتشيع في إيران لم يكن وليد حادثة صغيرة أو رؤيا أو منام، إنما هناك أسباب موضوعية كثيرة، وجذور سابقة أدت إلى انتشاره واتساعه.

أثر العلماء في الدول والملوك:

وبما أننا ذكرنا العلامة الحلّي «رحمة الله عليه» فلا بد أن نذكر أنه كان مفخرة المدرسة الأصولية، ومحدث النقلة الكبرى خصوصاً عندما عمد إلى تقسيم الحديث إلى تقسيماته الأربع، إذ فتح فتحاً عظيماً ودفع بالفقيه إلى مساحات متقدمة لم تكن معهودة ولا مألوفة من قبل، وكان له الدور الكبير في انتشار المذهب من خلال علاقته مع السلطان المذكور.

أما في عصر الدولة الصفوية فقد برز الميرزا محمد أمين الأسترآبادي [4]  المتوفى سنة 1123 هـ وكان رأس الإخبارية وشيخها الأول، وكان متكلماً محدثاً عالماً باحثاً. وكذلك الشيخ يوسف البحراني «ت 1186 ه» الذي كان معاصراً لأبرز أعلام الأصوليين آنذاك وهو الشيخ الوحيد البهبهاني «ت 1205 ه» وكان بينهما اختلاف كبير في مسائل جوهرية، ولكنه اختلاف العلماء.

إن بعضنا اليوم عندما يرى رجل دين اختلف مع رجل دين آخر يتصور أن الدنيا قد انتهت، إلا أن الاختلاف أمر وارد، ومن الطبيعي أن تنتقد أي إنسان طالما أنك لم تصل إلى حريم المعصوم والذات المقدسة، غاية ما في الأمر أن يكون الانتقاد بدليل وفي حدود الأدب، وهذا ما نسعى لتحقيقه.

لقد ألف الميرزا الأمين الاسترآبادي كتابه الفوائد المدنية فكان مرآة واضحة كاشفة لحالة الصراع القائم بين العلماء آنذاك من الفريقين الأصولي والإخباري. فلا تستغرب اليوم أن ترى جماعة المرجع الفلاني في جهة والمرجع الآخر في جهة أخرى، فلو كان رجال الدين من هذا الفريق وذاك الفريق التزموا حدود المسألة الشرعية وضوابطها، لما تصارع الناس فيما بينهم، لأن الناس لا شأن لهم ولا علم بتلك الاختلافات قبل ظهورها على السطح، فعموم الناس لا يبتغون سوى الراحة والاستقرار والألفة والمحبة والتعاون والصداقة الدائمة، ولكن إذا عبث رجل الدين بالأمور كانت الضرائب المدفوعة كبيرة جداً.

فكم حدثت من المقاطعة والمنابذة بين القريب وقريبه، والزوج وزوجته، بسبب تقليد فلان أو فلان، في حين أن جميع المراجع لا يرقى إلى مستوى المعصوم، وإنما يكون الرجوع لكل منهما لإبراء الذمة من التكليف، لا أنه يضمن لك الجنة، فلا معنى أن نبيع أنفسنا لغيرنا، كائناً من كان.

فلنكن حريصين على أوضاعنا، ونقلد من نشاء ما دام الأمر في حدود الطريق الشرعي. وعندئذ علينا أن نحترم الآخرين ليحترمونا. أما إذا أردت أن تعبث وتحرك الأوراق، فإن غيرك يمتلك من الوراق ما يمكنه أن يعبث بها أيضاً، ولديه من الملفات التي يمكن أن يقابل بها ما لديك من ملفات تعتقد أنك تملكها، ويمكنه أن يغربل الأوضاع ويخلق المشاكل.

كل ما أريد قوله هنا إن هذه الاختلافات ليست وليدة اليوم، فمجتمع الحوزة شأنه شأن سائر المجتمعات، وإن كان يفترض أن يكون الأقرب إلى الله ولكن ليس بالضرورة أن يكون كذلك. فمن أفتى بقتل الشيخ فضل الله النوري لم يكن بقالاً في سوق، ومن شرعن قتل الإمام الشهيد الصدر الأول لم يكن خبازاً، مع احترامي للبقال والخباز ولكنني أريد أن أقول: إن الإفتاء ليس من شأن هؤلاء، إنما يتصدى للإفتاء رجال دين.

فعلى الشباب أن يعوا ويقرأوا ويتثبتوا، فزمن الغفلة والخرافات والخزعبلات والأحلام انتهى، ولست معذوراً أيها الشاب، فالجيل السابق من الآباء والأجداد إذا كان معذوراً فلا عذر لأحد اليوم، لأن المعلومة اليوم في متناول اليد.

اقرأوا عن حياة الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء والسيد محسن الأمين العاملي والسيد الإمام، تجدوا أن البعض من أصحاب العمائم واللحى والشيبة البيضاء كان يقرأ دعاء كميل ثم يرفع يديه بالدعاء على الإمام الخميني أن يريح الله البلاد والعباد من وجوده!. وفي هذه البلاد يقيم أحد المشايخ وليمة طويلة عريضة فرحاً بيوم وفاة الإمام الخميني «رضوان الله تعالى عليه»!.

آثار الدولة الصفوية:

لا إشكال أن الدولة الصفوية في انطلاقتها العلمية أحدثت الكثير في مسار الفقه وكانت انطلاقتها كبيرة من خلال المكتبات التي أنشئت آنذاك، ومن خلال حركة الكثير من العلماء.

وقد تحركت عجلة الفلسفة أيضاً آنذاك، كما تحركت مدرسة الحديث، وهذه من العجائب والغرائب أيضاً، فكيف يمكن أن تتحرك كلتا العجلتين في آن واحد؟ وكيف تتفق حركة العقل المندفعة في اتجاه الأمام، مع حركة الحديث التي تجر إلى الوراء؟

لقد دخل الفقيه في تلك المرحلة بلاط السلطان، ولا شك أن دخوله هناك سوف يؤثر فيه، فقد حدث صراع كبير في هذه المسألة بين المحقق الشيخ إبراهيم القطيفي، والمحقق الكركي «رضوان الله تعالى عليهما» أي في مسألة أن يكون العالم فقيه السلطان.

وقد فتح الصفويون باب الخزانة على مصراعيه لكل فقيه أو عالم أو محدث اقترب منهم، ومما لا شك فيه أن يكون بين هؤلاء من هو متصنع.

وفي تلك الفترة كتب بحار الأنوار للعلامة المجلسي، وقد سئل العلامة الخنيزي عنه فقال: أغلب البحار ليس له إلا البحار!. ولكن انظر ماذا دفع الشيخ الخنيزي في مقابل ذلك.

كما أُلف كتاب البرهان للسيد هاشم البحراني الذي لا ينفك أحد مشايخ المنبر الحسيني على القنوات اليوم من مغادرته في كل صغيرة وكبيرة من فوق المنبر. وهو مشتمل على روايات كثيرة لا أساس لها.

فمما سمعته هذه الأيام من تلك التفسيرات والتأويلات بخصوص مريم التي كان لحملها خصوصية معروفة هي أنها حملت من غير زوج. لكنني سمعت من هؤلاء من يقول: صحيح أن مريم كان لها تلك الخصوصية، إلا أن الزهراء كان لها خصوصية أعظم، إذ رفع الله النبي ﷺ إليه لكي يخلق فاطمة !. فهل هذا يعظّم ويرفع من مقام الزهراء ؟

والغريب أن الجميع ساكت لا يتكلم، لا في هذه ولا في غيرها، بل سكت المرتزقة من رجال الدين في الكثير من القضايا كقضية نبش القبور التي ليس هناك ما هو أوضح منها، فلا تجد سوى التبرير واستعراض الروايات التي لا أساس لها، بل مواقف العلماء منها سلبية، فالدولة الإسلامية في إيران منعت طبع المطاعن من البحار وهو سبع مجلدات تحمل الكثير من الغث الموضوع.

لقد تولدت من كل ذلك مدرسة الغلو، ولا نعني بالغلو الحب المفرط لأهل البيت ، فهذا الحب من الواجبات والتكاليف، إنما الغلو هو القول فيهم بما يناسب الربوبية والألوهية. فهناك اليوم من يرى أن علياً هو الذي خلق الدنيا، وهو قادر على ذلك. فما معنى السكوت عن أمثال هذه الأفكار اليوم في قم والنجف رغم أنه يصطدم مع مشاريعهم الكبرى؟ ولصالح من؟

إن كلامي هذا لا يمكن حمله على دوافع شخصية كما هو واضح، فأنا أحمل هم مليار وستمئة مليون مسلم، وهمّ أربعمئة مليون شيعي، فلست متحجراً ولا منغلقاً، وأجد نفسي في الإنسان كإنسان، فأنا من الإنسان وأحب الإنسان، وأسأل الله تعالى أن لا تأتي الساعة التي أكره فيها إنساناً، ولكن إذا رأينا البوصلة انحرفت عن مسارها فعلينا أن نقوم بتصحيح المسار. والكلام في هذا الباب يطول.

أسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.

[1]  الكافي، الكليني1: 21.

[2]  تنتسب السلالة الصفوية إلى صفي الدين الأردبيلي وهو من أذربيجان، وكان سنياً على المذهب الشافعي، وشيخ طريقة صوفية، انتقل إلى أردبيل شمالي إيران، ومنه أخذت الدولة الصفوية هذا الاسم.

[3]  يختلف الباحثون في نسب الصفويين، فمنهم من ذهب إلى أنهم من التركمان، والتركماني تعني التركي المتدين، وبذلك يكونون من العنصر التركي شأنهم شأن العثمانيين، فهم أبناء عمومة بلحاظ القومية والعنصر، كما أن العربي والعربي أبناء عمومة، لا أنهم أبناء عمومة مباشرة كما لا يخفى. وقد كان العامل الحاسم في تكون الدولة الصفوية يعود إلى العنصر التركي، وقد بقيت اللغة التركية لغة البلاط الصفوي حتى بعد انتقال العاصمة إلى إصفهان الفارسية الثقافة واللغة. راجع: نشوء وسقوط الدولة الصفوية، رسول جعفريان، إعداد كمال السيد: 29. تاريخ الدولة الصفوية في إيران، محمد سهيل طقّوش: 7. ومنهم ادعى أنهم ينتسبون إلى رسول الله ﷺ اعتماداً على ما أثبته الصفويون لأنفسهم من هذا النسب الشريف. ومنهم من نسبهم للكرد، وهكذا.

[4]  رأس الإخباريين في القرن الحادي عشر، وأول من حارب المجتهدين، وتجرد للرد عليهم، داعياً إلى العمل بمتون الأخبار، طاعناً على الأصوليين بلهجة شديدة، زاعماً أن اتّباع العقل والإجماع، وأن اجتهاد المجتهد وتقليد العامي، بدع ومستحدثات! إلى غير ذلك من آراء الأخباريين المتأخرين، وقد أودع آراءه هذه في كتاب سماه الفوائد المدنية في الرد على من قال بالاجتهاد والتقليد. أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين العاملي9: 137.