آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 2:41 م

نافذة يَلِج منها الضوء

حسن السبع صحيفة اليوم

هذه إضافة إلى كتابة سابقة عنوانها «افتحوا النوافذ للضوء»، وأعني بذلك ضوءَ الفن المحاصر بكثير من الزواجر والنواهي، قبل محاكم التفتيش بزمن بعيد وإلى أيامنا هذه، يُحاصر الفن الحقيقي، كلمةً كان أم صورةً، لأنه صوت المستقبل الذي يقض مضاجع الغافين على سُرُر الماضي، والمغرمين باستنساخ نماذجه الجاهزة. ويُحاصر لأنه صوت الحقيقة الجامح المشاكس، أو لأنه مرافعة بديعة للدفاع عن قيم إنسانية مشتركة. ويُحاصر لأنه مثير لقلق الذين يزعجهم أي صوت لا يكون صدى لصوتهم. إِذ لا ينبغي لك أن تغني خارج السرب. وقد أدَّت هذه الحساسية المفرطة تجاه الفن المخالف للسائد، أو أي عزف «منفرد» إلى إعاقة أية محاولة من محاولات التجريب والتجديد. ومن ثمَّ تكريس حالة من العقم الأدبي والفني أنتجت فقاعات تُغني للفراغ وتمجده، فقاعات لفظتها الذاكرة الفنية السليمة التي لم تحتفظ سوى بالأعمال التي اتخذت الحب والقيم الإنسانية المشتركة مادة لإبداعاتها. لم تلقَ الأعمال الطليعية قبولا لدى طهاة الوجبة الثقافية الواحدة، والأوصياء على الذائقة، فاعتبرت تلك الأعمال الأدبية والفنية هلوسات وسقطات أخلاقية.

تحتفظ ذاكرة الأدب بحكاية تعبر عن سخرية الشاعر الروسي مايكوفسكي من اعتراضات الرقباء. فعندما اعترض الرقيب الحزبي على عنوان قصيدته «الحواري الثالث عشر» غيَّر الشاعر الكبير عنوانها ليصبح «غيمة في سروال». كان عنوانا تهكميا ساخرا. وبقيت القصيدة معروفة بهذا العنوان إلى يومنا هذا. وهو ما يعزز لديَّ القناعة بأن بعض أمراض البلاهة لا يمكن تشخيصها تمهيدا لعلاجها إلا بالدعابة.

في كتاب إدواردو غاليانو «أفواه الزمن» نص نثري عنوانه «تأسيس النهارات» «هكذا ورد في الترجمة جمع «نهار» مع أن «النهار» لا يجمع، وإذا جمع فهو في الكثرة «نُهُر». لكن هذه مجرد ملاحظة على الهامش». ويبدو لي أن الفن هو بطل هذا النص. «إنه الأول عندما تدنو نهاية الليل. يكسر صوتٌ ناشزٌ الصمتَ. النشاز الذي لا يتعب أبدا يوقظ معلمي الغناء. وقبل الضوء الأول تبدأ كل طيور العالم غناءها عند النافذة. محلقة فوق الأزهار التي تروقها. بعضها يغني حبا بالفن. أخرى ترسل أخبارا أو تروي تَقَوّلات ونمائم ودعابات أو تطلق خطابات أو تعلن أفراحا» لكنهم جميعا «يجتمعون في رطانة واحدة لأوركسترا متكاملة. وفي نهاية هذا النص يتساءل المؤلف قائلا:» هل تعلن الطيور عن انبلاج الصبح، أم أنها تصنعه مغنية؟».

وبعد: ما أشبه صناَّع الفن الحقيقي بتلك الطيور التي تعلن انبلاج الصباح أو تؤسس النهارات.