آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 4:39 م

حول الخصوصية والكونية

يوسف مكي * صحيفة الوطن

مبادرة الغرب بإشعال الثورة الصناعية، لم تمكّنه من احتكار منجزاته العلمية، ومنحها بصمته. بل العكس هو الصحيح. فالعالم ينفتح على أي مكتسب علمي، ويضيف إليه، ولا يتوقف عنده

قبل عدة سنوات، وفي صفحة الرأي بهذه الصحيفة الغراء، ناقشنا موضوع الخصوصية والكونية، في علاقة الأنا والآخر. وأشرنا في حينه إلى صعوبة الفصل بينهما، ذلك لأن ما لدينا من ثقافات وأفكار، ليست معزولة عن العلاقة مع الآخر، بل هي نتاج تفاعل مع وضع إنساني فوار، ومتحرك. ونحن في المبتدأ والخبر جزء من هذا العالم، نتأثر به، ونؤثر فيه، وإن بنسب متفاوتة، لا تبدو في هذه اللحظة من التاريخ لصالحنا.

في هذا الحديث نناقش العلاقة بين الخصوصية والكونية، في علاقتها بالعلوم والأفكار.

وأول ما ينبغي التنبه إليه في هذا السياق، أن العلوم بشكل عام، هي نتاج تراكم معرفي إنساني. ولذلك هناك صعوبة في إحالتها إلى جنسية خاصة، أو عرق خاص، أو حتى زمن محدد. ويصدق هذا القول، بشكل أدق، على العلوم الطبيعية.

فنحن لا نزال نتعلم في المدارس نظريات أرخميدس، وغيره من علماء اليونان الذين وضعوا لبنات أساسية في صياغة الهندسة والعلوم الرياضية. لكن ما قدمه هؤلاء العلماء ليس سوى نقطة البداية، وهو قطرة في محيط، بالنسبة للتطور العلمي الذي تواصل منذ ذلك التاريخ حتى هذه اللحظة.

في عصر أوروبا الوسيط، نهضت الحضارة العربية، واتخذت سياقا مختلفا عن الوضع المتشظي الذي عاشته دولة الخلافة العربية الإسلامية. فقد تزامن النهوض العلمي العربي، مع تداعي سلطان الخلافة، وتفككها إلى دول وممالك. وبرز علماء عرب أسسوا علم الكيمياء والجبر، وأبدعوا في الجغرافيا والطب، كالخوارزمي والكندي وابن النفيس والإدريسي وابن سيناء. وقائمة أسماء العلماء العرب الذين أسهموا في التطور العلمي طويلة.

ماذا يعني ذلك؟، يمكن القول إن تلك العلوم هي علوم عربية. وهل تبرر لحظة التأسيس عربيا، لهذه العلوم، احتكار صناعتها إلى ما لا نهاية. الإجابة هي بالنفي، لأن من غير الممكن أن تسود حالة السكون في العلم، وأن يتوقف التطور العلمي عند لحظة ما.

مثل هذا القول، يصح على منجزات العصر العلمية الهائلة. فهناك من اكتشف تولد الطاقة والخلية الحية. وقد تطورت مصادر الطاقة في القرون الثلاثة الأخيرة، تطورا هائلا، من الفحم الحجري، إلى النفط، إلى الطاقة الهيدروجينية والمائية. وأبواب الكشف العلمي لا تزال مفتوحة على مصاريعها.

حدث أكثر من ثورة صناعية، ودخلنا الثورة الرقمية، وكان الغرب رائدا في التطور العلمي الهائل، في تاريخنا المعاصر. لكن ذلك لم يمنع الشرق، من أن يفتح بواباته على هذه المنجزات العلمية، ويبز فيها.

نهضت اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، وباتت قوة اقتصادية وعملية لا يستهان بها. واستثمرت في نهضتها المعاصرة، منجزات الغرب. وبالمثل تقدمت الصين الشعبية، وزحف التنين الصيني بمنتجاته التكنولوجية على جميع القارات. وباتت الصين القوة الاقتصادية العالمية الثانية، بعد الولايات المتحدة الأميركية، مهددة بأن تحتل المقام الأول، على الصعيد الاقتصادي في غضون السنوات القليلة القادمة. وبالمثل دخلت كوريا الجنوبية، والنمور الآسيوية، والهند، ومؤخرا، إندونيسيا، على خط التطور الصناعي والاقتصادي.

خلاصة القول، إن مبادرة الغرب بإشعال الثورة الصناعية، لم تمكّنه من احتكار منجزاته العلمية، ومنحها بصمته. بل العكس هو الصحيح. فالعالم ينفتح على أي مكتسب علمي، ويضيف إليه، ولا يتوقف عنده. وما دام الأمر كذلك، فما الذي يدفع بالبعض إلى الحديث عن التغريب، أحيانا في صيغة افتتان وأحيانا أخر، في صيغة استنكار؟!

تفسير ذلك، أن تحولات الثورة الصناعية التي انطلقت من القارة الأوروبية، تزامنت مع تحولات سياسية كبرى، لعل الأبرز بينها ما نتج عن الثورتين: الفرنسية والإنجليزية من نظم سياسية، تحولت لاحقا إلى عقائد كونية. وقد أدى ذلك إلى الربط المستمر بين الاقتصاد وأطره السياسية، ممثلة في الفصل بيين المؤسسات التنفيذية والتشريعية والدستورية.

وقد أسهم احتكار الغرب لصناعة القوة، بكل تشعباتها، منذ عهد الاستعمار التقليدي، ثم خروج الولايات المتحدة عن عزلتها خلف المحيط، وتقاسمها مع الاتحاد السوفييتي السابق، في التربع على عرش الهيمنة الأممية، ثم تفردها منذ مطالع التسعينات من القرن المنصرم، بصنع القرار الأممي. كل ذلك جعل من الصعوبة الفصل، بين قوتها الاقتصادية وجموحها السياسي. وهو ما نتج عنه طغيان تعبير التغريب.

وطبيعي إنسانيا، أن يتشبه الضعيف بالقوي. يصدق ذلك على الأفراد، كما يصدق على الإمبراطوريات، وذلك ما تنبه إليه العلامة العربي، عبدالرحمن بن خلدون، حين أشار إلى أن الأمم الضعيفة، تتشبه بالأمم القوية، في المأكل والملبس والثقافة والفنون والفلكلور. وذلك ما يفسر كيف عَمَّ لبس الطربوش التركي في مصر وبلاد الشام أثناء السيطرة العثمانية. وكيف أن البلاد المستعمرة، تعمل على تعلم لغة مستعمريها، والتغني بها، واعتبار معرفتها جزءا من الوجاهة الاجتماعية. وذلك أمر لا يحتاج إلى كثير جدل. فواقع البلدان العربية التي تقاسم الفرنسيون والبريطانيون الهيمنة عليها، لعقود طويلة، يفصح بجلاء عن ذلك.

لا يمكن توصيف ذلك، بالكونية، لأنه خضوع من الضعيف على الثقافات المهيمنة. وهو خضوع مؤقت، سرعان ما ينتهي، عندما تتغير الحقائق على الأرض، ويحدث تبدل في موازين القوى السياسية الإقليمية والدولية، والحياة في جزء منها دورات تتناوب فيها الإمبراطوريات والدول.

وبالنسبة لنا نحن العرب، كانت دمشق وبغداد محجا لطلاب العلم، من كل أصقاع العالم، وتغير الحال، وبتنا نبحث عن العلم والثقافة والجاه، حيث تتوافر، واستمرار الحال من المحال.