آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 2:22 م

العرب واحتمالات انبثاق نظام دولي جديد

يوسف مكي * صحيفة الوطن

نحن على أعتاب تسويات تاريخية كبرى بين أميركا وروسيا، بدأت بعض ملامحها تتضح في اتفاقيات هدنة على الأراضي السورية، واحتمالات تسويات سياسية جديدة بالعراق

سنوات عجاف مر بها العالم بأسره، منذ انفرط النظام الدولي، الذي تأسس في أعقاب الحرب العالمية الثانية، والذي استند على تعددية قطبية، عمادها قطبان عظميان هما الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي. وكان البديل هو الانفلات الدولي. والانفلات بطبيعته نقيض النظام. وقد كانت أهم سماته تضعضع الكيانات الوطنية، وغياب الأطر الناظمة للعلاقات الدولية.

وفي ظل النظام الدولي الذي استمر منذ نهاية الحرب الكونية الثانية حتى مطالع التسعينيات من القرن المنصرم، وباستثناءات نادرة، حضرت بقوة الأطر التي تنظم العلاقات بين الدول. وقد عكست هذه الأطر في جانب منها حاجة إنسانية لسيادة السلم العالمي، ومن جانب آخر، عبرت عن طبيعة ومستوى التوازنات، في القوة الدولية.

في العقد الثاني من القرن المنصرم شهدت البشرية اندلاع أول حرب كونية، كانت أركانها الرئيسية القوى الاستعمارية التقليدية القديمة. وانتهت الحرب بهزيمة ألمانيا والقضاء على السلطنة العثمانية. وبدأت إرهاصات تشكل نظاما دوليا جديدا، عبرت عنه مبادئ عصبة الأمم، على قاعدة الاعتراف بسيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية.

ألغت عصبة الأمم مبدأ حق الفتح الذي ساد منذ أن عرفت البشرية الاجتماع الإنساني. وبموجب ذلك المبدأ كانت الإمبراطوريات تتوسع وتتقلص تبعا لقدراتها العسكرية والاقتصادية. وبموجب هذا المبدأ أيضا نشأت وانهارت الإمبراطوريات القديمة.

طرح الرئيس الأميركي ويلسون بعد الحرب العالمية الأولى مبادئه الأربعة عشر، التي عرفت بإعلان ويلسون لحقوق الإنسان. وتضمنت حق شعوب الأرض في الاستقلال وتقرير المصير. وقد عنى ذلك توجها إنسانيا جديدا نحو إنهاء حقبة الاستعمار.

واستعيض عن التعبير الفاقع للاستعمار، بمصطلحات جديدة، كان الأكثر حضورا بينها الوصاية والحماية والانتداب. وقد عنت جميعا استمرار الهيمنة الاستعمارية على دول العالم الثالث، بمسميات وآليات جديدة. ولكنها حملت في الوقت ذاته مؤشرات على اقتراب نهاية الاستعمار التقليدي، وبروز الدولة الوطنية الحديثة.

لكن حقبة ما بين الحربين، لم تسمح بتشكل نظام دولي جديد. فالاتفاقيات التي وقعها المنتصرون بعد الحرب، والمعاهدات التي فرضت على المهزومين، كانت في حقيقتها تعبيرا عن مصالح قوى شاخت، وكان اندحارها عن العالم الثالث مسألة وقت. وافتقرت في نصوصها إلى روح العدل.

في المنطقة العربية كان نصيبنا من تداعي آثار تلك الحرب كبيرا. فقد بقي المغرب العربي بأسره محتلا من دول إنجلترا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا. لكن الانفلات الدولي الذي ساد بين الحربين، وعدم توصل القوى الفتية التي بزغت بعد نهاية الحرب، الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي إلى اتفاقيات بينهما، أسهم في إشعال حروب التحرير الوطنية، على مستوى القارات الثلاث: آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية.

حددت نتائج الحرب العالمية الثانية شكل النظام الدولي الجديد الذي ساد في القرن العشرين، واتضحت معالمه ووقعت اتفاقية يالطة. ولكن الترجمة الحقيقية لتوزيع موازين القوى لم تبرز إلا بعد التحاق الاتحاد السوفيتي بالولايات المتحدة في امتلاك القوة النووية. وكانت أبرز ملامح هذا النظام هو استناده على توزيع عناصر القوة بين مالكي أكبر قوة تدميرية على وجه الكرة الأرضية.

كانت أهم ملامح الخمسينيات والستينيات، من القرن المنصرم، اشتعال الحرب الباردة، وتعزيز كل من القوتين العظميين، توسيع دائرة نفوذهما السياسي والأيديولوجي والاقتصادي، وتشكيل مجموع من الأحلاف العسكرية لصالحهما، كان الأبرز بينها حلف الناتو وحلف وارسو. أما الملمح الآخر فهو نأي القوتين عن المواجهة العسكرية مع بعضهما البعض.

بعد اكتشاف السلاح النووي غدت المواجهة العسكرية بين العملاقين الأميركي والسوفييتي مستحيلة، لأن حدوث ذلك سيعني فناء محققا للبشرية. لكن ذلك لم ينه هذه المواجهة بل غير آلياتها وأنماطها وأشكالها.

نحت حروب ما بعد اشتعال الحرب الباردة، نحو شكلين: حروب العصابات والحروب التقليدية، وجميعها تشن بالوكالة، نيابة عن السوفييت أو الأميركان. والأمثلة في هذا السياق كثيرة، لعل أهمها دور الكيان الصهيوني في حراسة المصالح الغربية، والحروب في كوريا وفيتنام والجزائر وكوبا وأنجولا، وعدد آخر من الدول. وفي جميع هذه الحروب وقفت واحدة من القوى الكبرى، خلف حلفائها تقدم لهم الدعم السياسي والعسكري والمال.

غابت التوافقات الدولية بعد انفراط الكتلة الاشتراكية. وتربع اليانكي الأميركي على عرش الهيمنة الدولية.

وخلال أكثر من ثلاثة عقود، سقط مفهوم السيادة، وضعف دور الدولة الوطنية، وسنت القوة الكبرى المتفردة من طرف واحد قوانين جديدة فرضتها على المجتمع الدولي. وكان من أبرز إفرازات غياب الأطر الناظمة للعلاقات الدولية بروز تنظيمات الإرهاب والتطرف، وعلى رأسها تنظيم القاعدة.

الآن نحن على أعتاب تسويات تاريخية كبرى، بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا الاتحادية، بدأت بعض ملامحها تتضح في اتفاقيات هدنة على الأراضي السورية، واحتمالات تسويات سياسية جديدة بالعراق. وربما تهيأت هذه التسويات لانبثاق نظام دولي جديد. وقد علمتنا الأحداث التاريخية أن ليس هناك مكان للضعفاء. والمؤكد أنه في ظل التشتت والضياع العربيين، لن يستأذن منا أحد، ولن يؤخذ رأينا في شكل هذا النظام. وسوف نبقى على هامش التاريخ، ما لم نقدم على تسويات عربية تاريخية جديدة، عمادها تحقيق مصالحات كبرى بين النظم العربية. وإعادة الحياة والاعتبار للنظام العربي الرسمي، الذي بات طويلا في غرفة الإنعاش.

القرار قرارنا، والخيار خيارنا، إما أن نكون في قلب التحولات العالمية التي تجري من حولنا، وذلك يقتضي تشكيل منظومة عمل عربية شاملة، تصيغ استراتيجية علمية وعملية للانخراط في التحولات الكونية، ومن غير ذلك سنكون خارج المعادلة، وخارج التاريخ، وفي أحسن الأحوال على أطرافه.