آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:57 ص

الحصة الثانية

أثير السادة *

لا أحتاج هذه المرة إلى الدموع لأعبر الطريق إلى مدرستي الجديدة، فالسنوات الست التي مرت كانت كافية لجعل خطواتنا إلى الدرس أنضج وأقل ارتباكاً، لكني سأكون وحيداً إلا من الشمس في الذهاب والعودة إلى هناك، فمدرسة سيهات المتوسطة لا تفتح أبوابها لأبناء حينا، غير أن سمعة متوسطة موسى بن نصير كانت دافعا لأبي كي ما يبحث عن خيار أفضل، ولو كان عبر الوساطات التي ساهمت في الدخول إلى حصن جديد، لا أعرف فيه أحداً من الطلاب ولا المعلمين.

مدججا بحماسة اليوم الدراسي الأول، وقفت في الطابور، أخفي قلقي من الوجوه التي لا تواقيع لها في ذاكرتي، هناك ستشعر بالارتياب لأصغر شيء، وكأنك في كوكب آخر، كانت نظرات حسن مشامع وصديقه جاسم عيد تكفي للبدء في رصد قائمة المشاغبين في هذه المدرسة، يتبادلون الابتسامات وكأنهم يتقاسمون الأدوار في موسم جديد، وبسب فارق الحجم والكتلة بين وبينهم لم أكن أعلم إن كانوا ضيوفا للمرة الثانية على صفهم هذا أم لا!.

كان الخروج من حينا الصغير نادراً يومها، كانت صداقاتنا مربوطة بهذا الحد الجغرافي، نركض في كل الاتجاهات إلا أننا نستوحش العبور من غير الممرات التي نعرفها، لذلك كان الشعور بالاغتراب مضاعفاً وأنا أبحث عن أي وجه مألوف في زحام المدرسة، أقلب عيني في فسحتي الأولى لعلي أجد ظلاً لصديق قديم فلا أجد، وحدها لحظة الانصراف في أول يوم دراسي سترشدني إلى زميل سيشاطرني المشي إلى حارتنا، طالب آخر عبر على جسر الواسطة إلى هناك، ليكون رفيقا للدرب وقنديلا لليالي الموحشة هناك، وهو السيد أمين السيد مكي.

كالحصة الأولى، مضت الحصة الثانية دون أن يطول القلق ووحشة المكان، شممنا هواء كل الأحياء ونحن نمضي في صداقات جديدة، الوقت يمر وفيه لا يتوقف الفرح بنشوة العمر، وبدايات النضج، نكتشف الناس بمثل ما نكتشف الدروس الجديدة، أحرفنا الأبجدية ستكون سبباً لاتصالنا ببعض طيلة السنوات الثلاثة، فالفصول موزعة بحسب الترتيب الهجائي، غير أننا سنكتشف أيضاً نضج بعضنا قبل البعض الآخر، علامات البلوغ التي ستترك آثارها على أصواتهم، وغزير الشعر في وجوههم ستترك من ورائها الكثير من الأسئلة!.

كانت الدروس كثيرة في الحصة الثانية، دروس داخل سور المدرسة وأخرى خارجها، الجالسون في البوفيه الصغيرة القريبة عند ساعة الانصراف كانوا يكتبون درسهم بنظراتهم، وتحرشاتهم، وصور الانتقام التي انتهت إليها سوء العلاقة بين الاستاذ وبعض تلامذته تركت درساً ثقيلاً في ذاكرتنا، ومثلها صورة المدرس الذي انتقل من مذهب لآخر فأحال مادة الجغرافيا إلى كابوس ليلي لتوقظ فينا دروس الطائفية المقيتة، فيما كانت الوجوه المخلصة للتعليم من طاقم التدريس تمثل دروساً كثيفة في معنى التفاني والتضحية.

فالسلام على الحصة الثانية.