آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 10:36 م

عرفتُ الحُسين

فؤاد الجشي

نظرَ إليَّ والدي بابتسامة كان لها، مَدّ يديه وقال: كم عمرك؟ قلت له: ستة أعوام. فسألني: أتريد الذهاب معي؟ ابتسمت قليلاً، وقلت: نعم. نادى والدتي بتلك التحية وهو على غير عادته، قائلاً: لبّسيه الثوب الشتوي الأسود الذي اشتريته مؤخراً. وبعد أن لبسته أخذني والدي نمشي سويًّا، لكن لا أعلم إلى أين؟

الشتاء كان قارصاً والجميع يرتدي السواد بمن فيهم أبي، سمعته يقول بعد السلام على الذين التقاهم في الطريق: مأجورين! رأيت جموعاً من البشر تنتقل من شارع إلى آخر يدخلون في زقاق ويخرجون من آخر، رأيت شيخاً جليلاً يرتدي عمامة سوداء، ذا لحية بيضاء كثيفة يبتسم لي، بعد التحية مع والدي، بسط يديه لي أولاً سأل والدي: ما اسمه؟ أجابه والدي: فؤاد. استمرّ مبتسماً وأخذ يقبّلني، فشكره والدي على اهتمامه وهو يدعو بأن يحفظه الله.

الخطوة كانت تلك الدار التي رأيتها تحتوي جمعاً من البشر، قبل الدخول رأيت مَنقلة الجمر حولها شخصٌ أو أشخاص وأباريق الشّاي ودِلال القهوة وسطها، وأرجيلات ”أرجيلة“ مُسندة وأشخاص يضعون الأنبوب الخشبي الذي يُسمّى القَلم، يضعونها في فوهتهم متصلة بلحاء جوز الهند ثم يخرج الدخان من جيوب أنوفهم وأفواههم وهم في يجلسون القرفصاء، بينما والدي يشرب تلك القهوة وهو يحادث أبا علي.

وضعنا أحذيتنا جانباً، استند أبي إلى ذلك الحائط وأنا بجانبه وهو يشير بالسلام إلى الجالسين الذي يرتدون السواد حين تزيّنت حوائط الدار بتلك الآيات وبحروف لا أستطيع قراءتها وضجيج البشر يعمّ المكان.

سمعت أحد الحاضرين الذي كان بجانب أبي: ”زين سوّيت أبو فؤاد أحضرت الولد الحسينية“، تلك كانت المرة الأولى التي أسمعها، وأمعنت النظر والترصّد في جميع أنحاء المكان حين وقف الجميع فجأةيصلون على النبي وآله بصوت مرتفع، لم أدرك ما كان يحدث، لكن وجدت الشيخ ذا العمامة السوداء الذي قبّلني يدخل متجهاً إلى مكان خشبي مرتفع، سمعت أحدهم يقول: وصل السيد المنبر إلى ذلك الضرير الذي بجانبه، ابتدأ حديثه بآية من الذكر الحكيم أتبعه برثاء بصوت جميل:

فِداءً لِمَثْواكَ مِنْ مَضْجَعِ تَنَوَّرَ بِالأبْلَجِ الأرْوَعِ

بِأَعبَقَ مِن نَفَحَاتِ الجِنانِ رَوْحاً وَمِن مِسْكِها أضوَعِ

وَرَعياً لِيَومِكَ يَومِ الطُّفُوفِ وَسَقياً لأِرضِكَ مِنْ مَصْرَعِ

سمعت همساً يقول لصاحبه: اسمع جيّداً، هذه القصيدة للشاعر محمد مهدي الجواهري، نعم.. نعم.. الله يخلّيك، اسكت ثم أنصت. استمر الرثاء والصوت الجميل، لكن عيني تمسح وتحقق في وجوه المستمعين منهم شيوخ وأعلام سمعتهم يتحدثون عنهم في المجلس، إلا أنّ شيئاً لفت انتباهي ولم أرفع عيني عنها أثناء الخطابة، لوحة قماشية لونها داهمة السّواد ومن طرفها إلى طرفها بداخلها حروف باللون الأحمر أحاول تهجئتها مستعيناً بما تعلّمته من حروف عند المطوّعة.

واصل الخطيب قراءته، سمعته يقول: المدينة المنورة، مكة المكرمة، ويذكر رحيله إلى مكان اسمها كربلاء، نظرت إلى والدي أجذ بطرف كُمّه، أريد سؤاله، أشار لي بالهدوء، لديّ سؤال وسؤال، ماذا يقول الخطيب؟ أعدت النظر باهتمام مرّة أخرى إلى تلك اللوحة القماشية، وبهجاء طفل وهمس الصوت قلت: ا.. ل.. ح.. س.. ي.. ن..، رأيت والدي ينظر لي ويبتسم، بعدها ارتفع صوت الخطيب عالياً والناس يبكون، تعجّبت لبكائهم ووالدي أحدهم، لكنّي بكيت بكاءهم حتى هدأت الأصوات، وبدأت الناس تخرج من المجلس ويدي بيد والدي، تملّصت منه فجأة متوجّهاً إلى السيد الخطيب، وببراءة الطفولة قلت له: عمّي.. عمّي السيد.. من بين الحشود التي تحييه وتسلّم عليه وتشكره.

تقدّمت إليه.. والجمع ينظر، رآني أبتسم في وسط هذا الحزن: نعم يا فؤاد، قبّل يديّ وقبّلت يديه وهو مفعم بالفرح، لقد قرأت، ا.. ل.. ح.. س.. ي.. ن في تلك القماشة خلف المكان المرتفع، إنّها الحسين، صحّ عمّي؟ نعم.. نعم.. ياروح عمّي، صح.. صح، إنه الإمام الحسين .

ضحك الجميع في إعجاب بسؤالي وهم يمسحون على رأسي ووالدي أحدهم، ابتسم والدي إلى السيد وهو يعتذر إليه على جرأتي، فقال له السيد: انتبه له جيّداً، بارك الله فيكم، وأثناء المغادرة من المجلس وعلى الباب الرئيس وقفت أودّع بإشارة من يدي تلك الحروف التي كانت تؤلف اسم: الإمام الحسين!.