آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 11:37 ص

حبات المطر

المهندس هلال حسن الوحيد *

في مقالةٍ بعنوان زارع الأمل قصصتُ سرَّ نجاحِ صاحبي في الحياة وكيف عبرَ أرضَ الحسكِ غيرعابئٍ بالوخزِ في قدميه منذُ فجرِ شبابه.

قلت له: صاحبي أنت سُدْتَ بشرفِ نفسك. أظن أنني لم أكن متمرداً كما أنتَ ولكن كنتُ عازماً على تسديدِ أهدافٍ في شبكةِ الحياةِ حيثما استطعت فهل تبارز؟ أروي لك طرفةً وتروي مثلها فقد بقيَ زمنٌ قبلَ كانون ومن يدري هل يصلُ لقائنا إلى الخَوْرِ أم يتيه في لُجَجَ بحرِ النسيان؟ قال: لمَ لا، هاتِ ما عندك. قلت احكي لكَ واحدةً ثم أنت الأخرى:

كنتُ ابحثُ عن عملٍ في صيفِ سنةِ 1975م، أخبرني ابنُ عمٍّ لي أن قاعدةً قربَ مطار الظهران لديها أعمال. نمتُ مثل الذئبِ بعينٍ واحدةٍ وأخرى مفتوحة بانتظارِ الصباح. اقترضتُ عشرينَ ريالاً،  ركبتُ سيارةَ أجرةٍ من تاروت إلى القطيف ومن ثم الدمام وبعدها إلى القاعدة. رحلةٌ طويلةٌ وخطيرةٌ لشابٍ في الخامسة عشرة، وصلتُ قُبيلَ وصولِ الضابط المسؤول. لم يسمح لي الحارسُ بالدخول ولكن لم يمانع وقوفي والحديثَ معه عندما عرفَ الغرضَ من الزيارة. وصل الضابطُ ونظرَ لي نظرةَ ثم سأل الحارسَ لم أنا هناك. أخبره الحارس بأنني ابحثُ عن عملٍ مؤقت. لم يكلمني الضابط ولكنه قال للحارسِ أن يخبرني أنه ليسَ هناكَ من عملٍ وعليَّ ألا أعودَ مرةً أخرى. عدتُ بأقل من خفي حنين وخسرتُ العشرين ريالاً. لم تصبني الخيبة وكأنَّ شيئاً لم يكن.

هزَّ صاحبي رَأسَهُ وقال ليست بشيءٍ سوى حادثةِ صبيٍّ مُدَلَّع.

بحثتُ عن عملٍ صيفي عام 1976م ولم اجد سوى سباك البلد العجوز ومعه ثلاثة رجالٍ في سِنِّه يشقون الطرقَ والاسفلت بالمعاولِ والرفش. بدأتُ اليومَ الأول مقابل ثلاثينَ ريالاً، مبلغٌ لا بأس به. أعطاني الرجالُ المعولَ وبدأت الحفر وكلما ضربتُ الارض ارتدَّ المعول. مَجَلَتْ يدي، تشقق الجلدُ وبان اللحمُ ولكن لن يهزمني العَجَائِز. انتهى ذلكَ اليومُ الحارُّ وكان بطولِ يومِ القيامة.  لم يثنيني الألمُ عن الرغبةِ في العملِ اليوم التالي لكنَّ الرجلَ أعطاني الثلاثينَ ريالاً وصرفني لأنَّ الرجالَ خافوا المنافسةَ وأقنعوهُ أنني لا أصلح للعمل. لم أستطع العملَ بعدها مدةً حتى برأت يدي.

انتهينا إلى أنه فازَ بالمعاناةِ وربما كان السبب في أنه يملكُ مالاً أكثر. هذهِ التجارب مع مرارتها وبساطتها حينها هي جزيئاتُ الماءِ التي تتحول إلى الغيومِ والسحبِ التي تجتمعُ حتى وإذا اكتملت الظروفُ تساقطت وأحيت الميتَ من أرضنا. صغيراً أو كبيراً، لا تتلف ولو ثانيةً من عمرك. قُسْ الحياة بنتائجها الجامعة وليس بنجاعةِ بعضِ فصولها، حتى وإن فشلت بعضُ التجاربِ فبعضُ المطرِ يعودُ إلى البحر.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 2
1
راضي /أبو فادي
[ القطيف ]: 24 / 10 / 2017م - 2:27 م
يعطيك الف الف عافيه موضوع رااائع وجميل وجهود أروع ننتظر مزيدكم بشوووق
اخي ابو علي وتسلم اناملك .
2
طاهرة آل سيف
[ صفوى ]: 24 / 10 / 2017م - 8:10 م
رائع جداً قصةً وفكرة .
مستشار أعلى هندسة بترول