آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 10:36 م

حين تضعك الحياة بين عالمين

محمد الحرز * صحيفة اليوم

 الذهاب إلى العمل صباحا والعودة ظهرا بشكل يومي، يصبح بحكم العادة، هو الجزء المقتطع من حياتك اليومية الأكثر روتينية ونمطية. ولا يمكنك بالتالي أن تفكر أو حتى تلتفت إلى هذه الساعات التي تقضيها في عملك بطريقة غير مألوفة. فمثلا حين تعتاد عيناك على مشاهدة الطريق الذي تسلكه يوميا إلى العمل، وتعتاد يداك على البحث من خلال مؤشر الراديو عن أغنية صباحية، يكون تركيزك لما يجري من حولك أقل انتباها، وشعورك لا يتجدد وإحساسك بالأشياء من حولك يظل كما بالأمس باهتا وليس فيه ما يشدك بالفرح أو الحزن. 

البلادة هي الوصف الأكثر مطابقة في تلك اللحظات العابرة. قد يفوتك في هذه الأثناء التفكير أو التأمل في الصور الكثيرة التي تحدث في الحياة من الخارج الذي تعبره يوميا، كطريقة وقوفك أمام الإشارة الضوئية في الشارع، أو هيئة السائق الذي يقف بجانبك في هذه الإشارة الضوئية أو تلك، أو حتى الاستغراق في تأمل تعابير مختلف الوجوه التي تصادفها في الطريق، أو الإحساس العميق بتغير الأجواء الصباحية وتقلباتها على حركة ما يجري في الشارع. وهكذا دواليك تصبح حركتك اليومية أشبه بآلة كبيرة تدور من تلقاء نفسها دون أن يطالها تغيير أو تطوير، وسأضرب المثل بطبيعة مهنة المعلم حيث كوني معلما وكاتبا في ذات الوقت، وهذا في ظني ما يجعل الخروج من نمطية الشعور اليومي للعمل أكثر صعوبة ومفارقة، فمن جهة أنت تعيش بين عالمين مختلفين ففي ساعات العمل اليومي أكون بين طلابي الصغار - المرحلة الابتدائية - وعندما أكون بين طلابي هذا معناه أنني أحضر بينهم ليس جسديا فقط، بل ذهنيا وشعوريا وسلوكيا، والتفكير بالتالي في كل الطرق التي تقربني منهم وتحببني إليهم، وعندما أقول هذا الكلام، لاحظوا معي، فانني أمارسه في مجال تربوي أحتاج فيه إلى عادة التكرار حتى يصبح هذا التكرار مثالا قائما أمام أعين الطلاب، بينما عندما أكون خارج العمل أدخل في عالم آخر مختلف تكون فيه أسئلة الكتابة ومآزق الثقافة والحياة والمسؤولية والقضايا الكبرى هي الهاجس الأكبر الذي يستحوذ على جل تفكيري واهتماماتي. لذلك هذا النزوع بين العالمين المفارقين، رغم تكيفي بينهما، ورغم محاولاتي للاستفادة والاستثمار وفتح الطرق وتوسعها فيما بينهما، إلا أن الأمر يتطلب إرادة صلبة وتضحيات أولها وآخرها مقاومة الشعور بالتنميط في الأول، والتخفف من ضخامة الأنا في تفكيرها في العالم الآخر.