آخر تحديث: 20 / 4 / 2024م - 2:34 ص

بين العلم والثقافة

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

نناقش في هذه المقالة العلاقة بين العلم، باعتباره رصداً ومشاهدة وامتحاناً، ونتاج تراكم ومحاولات مستمرة للكشف وحركة وتعاقب. والمقالة هذه معنية بالتطورات العملية الهائلة الراهنة، وتطورها وتأثيراتها، على الثقافة في لحظة بعينها هي هذه اللحظة. أما الثقافة، فهي تعريفها من وجهة نظرنا، أنها الحاضن لما تختزنه ذاكرة الأمة من عادات وتقاليد ومواريث وفنون.

لقد تناولنا سابقاً، تأثيرات العلم على الفلسفة، ونشرنا مقالاً، في هذه الصحيفة تحت عنوان «التطور العلمي ومصير الفلسفة»، أشرنا فيه إلى أن العلم الذي خرج من رحم الفلسفة، قد أدت تطوراته السريعة، والمتلاحقة، إلى أن تصبح وظيفة الفيلسوف صعبة جداً. فهو لا يكاد يصل إلى مشروع فلسفي جديد، حتى تصدمه حقائق علمية جديدة، تجعله يعيد النظر في مصنفاته النظرية السابقة. لقد باتت مهمة الفلسفة، كما الفروع الأخرى، ذات العلاقة، ومن ضمنها مختلف أنواع الفنون صعبة. والقانون العام هو اللهاث، للحاق باللحظة.

في هذا السياق، تنبه كثير من المفكرين والكتاب، قبل أكثر من مئة عام، للمخاطر التي يحملها التطور العلمي الهائل على الفلسفة والفنون والثقافات. فكتب ول ديورانت في كتابه «قصة الفلسفة»، إلى هذه الأزمة فأشار إلى أن الفلسفة التي سبق لها ذات مرة أن استنفرت كل العلوم لمساعدتها في إبداع لوحة متلاحمة الرقعة للعالم، وصورة للخير مغوية مغرية، وجدت مهمتها في التنسيق أشد هولا مما تطيقه شجاعتها، ففرت هاربة من جميع جبهات معركة الحقيقة هذه، واندست مخبئة نفسها في أزقة سرية مكنونة، آمنة، أمن جبان رعديد من قضايا الحياة ومسؤولياتها.. ذلك أن المعرفة البشرية أمست جداً عظيمة وحثيثة لا يمكن للذهن البشري اللحاق بها.

ومنذ صدر كتاب ول ديورانت، شهد العالم تحولات هائلة، في كل المجالات العلمية. لقد أشار روجيه غارودي في كتابه «البديل»، إلى أن الإنجاز العلمي للبشرية، تضاعف في النصف الأول من القرن العشرين. والواقع أن الفرق شاسع وكبير، رغم أهمية ما أنجز، بين ما انجز في النصف الأول من القرن، وما تحقق في النصف الثاني منه. وذلك شيء طبيعي إذا سلمنا بقانون التراكم.

وحدثت تبدلات جوهرية في طريقة الحياة اليومية لعموم الناس. تبدلت تقاليد وثقافات، واستعيض عنها بما يتماهى مع الثورات العلمية الهائلة في كل المجالات.

ففي النصف الأخير من القرن العشرين حدثت تطورات كبرى، سريعة وبالغة الأهمية، في عالم الكمبيوتر، بحيث يمكن القول دون مبالغة، أنه في كل أسبوع استقبل العالم إضافة نوعية جديدة في مجال البرامج والأجهزة مما ضاعف من كفاءة الكمبيوتر بأكثر من مليون ضعف عما كان عليه أول حاسب آلي صنع عام 1946م.

لقد استقبل العالم جيلاً جديداً من هذه الصناعة يتصف بدرجة عالية من الذكاء، بإمكانه تنفيذ أكثر من ملياري عملية مختلفة في الثانية الواحدة، وهو أمر كان يستغرق ألف عام لإجرائه في السابق. وهذا الجيل لا يزداد سرعة وكفاءة فقط، بل يزداد تخصصاً وصغراً ورخصاً وانتشاراً. وهو قادر على التحليل والتركيب والاستنتاج المنطقي وحل المسائل وبرهنة النظريات وفهم النصوص وتأليف المقالات.

أما المجال الآخر في هذه الثورة الجديدة، فهو التطور المثير في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والابتكارات في أشباه الموصلات والألياف الصوتية القادرة على معالجة المعلومات وتخزينها واسترجاعها بمعدلات وسرعة تتضاعف بشكل أسي. فقد تمت رقمنة كل المعلومات بجميع أشكالها الصوتية والتصويرية وأصبحت متصلة بشبكة عالمية واسعة وسريعة متيحة المجال لجميع الأفراد وجميع الشرائح وبجميع اللغات الإطلاع على ما لم يكن بالإمكان الإطلاع عليه في أي زمان، بما في ذلك الإطلاع على ما هو موجود في المكتبات والجامعات ومراكز البحوث العلمية.. كل ذلك أصبح بالإمكان الحصول عليه بسرعة الضوء، وقد اخترقت هذه المنجزات حياتنا وثقافاتنا بسرعة الضوء.

كما أتاحت تكنولوجيا المعلومات للأفراد والمجتمعات فرص الارتباط بعدد لا يحصى من كابلات ضوئية وفاكسات، ومحطات إذاعة وقنوات تلفزيونية أرضية وفضائية تبث برامجها المختلفة عبر مئات المراكب الفضائية، إضافة إلى أجهزة الكمبيوتر والبريد الإلكتروني وشبكات الإنترنت، وقد ربطت تلك الوسائل عالمنا بأكمله بتكاليف أقل ووضوح أكثر، وعلى مدار الساعة، ودون قدرة الدول على التدخل أو الرقابة الفاعلة.

وكانت الثورة العلمية الأخرى قد حدثت في العقد الأخير من القرن الماضي، محدثة تطورات مذهلة في مجالات الهندسة الوراثية. فقد تمكن العلماء خلال عقد التسعينات من تفكيك الجينات الوراثية للكائنات الحية، وبالتالي الدخول إلى عالم الخلق الصناعي والمختبري لجميع الكائنات النباتية والحيوانية، بما في ذلك الإنسان. لقد عبر العلماء نقطة اللاعودة في مجال نسخ الكائنات خلال هذا العقد، بعد النجاح المذهل الذي حققه استنساخ النعجة دوللي.

والأهم هو ما أحدثته هذه التحولات من تغيرات في السلوك الإنساني وأنماط العيش، والثقافات، والفلكلور، ومختلف أنواع الفنون. إن أهمية هذا الموضوع، تقتضي الوقوف طويلا، وفي محطات ومقالات مكثفة، ومناقشة هذا الموضوع بمزيد من القراءة والتحليل، لعلنا نتمكن، من تحقيق مواءمة تحفظ لنا بعضاً من الذاكرة الثقافية، في هذا الإعصار العلمي الجارف.