آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 2:44 م

رضى الله ورضى النفس ورضى الناس

الشيخ حسين المصطفى

ما قيمة رضى الله تعالى في الإنسان ومصيره؟

وكيف ينتصب عمل الإنسان بين علاقته برضى نفسه، أو رضى الناس، أو رضى الله..

نجد شريحة كبيرة من الناس يتبع في حياته رضى نفسه وما تهواه، من خلال غرائزه أو مصالحه الشخصية أو من خلال مشاعره العاطفية، فالأساس في حركته أن يلبي رضى نفسه، من دون النظر لرضى الله تعالى.

وهناك شريحة كبيرة منهم، كلّ همّه أن ينال رضى الناس عنه؛ فالأساس في حركته أن يحقق أطماعه أو أحلامه عندهم، بحيث تتصل شهوته أو أطماعه بالآخرين، سواء كان الآخرون ممن يملكون موقعاً اقتصادياً فيطمعون بماله، أو ممن يملك موقعاً سياسياً فيطمعون بجاهه، من دون أن يفكروا برضى الله في كلِّ ذلك.

وهناك شريحة ثالثة من الناس - وهي قليلة على مدار التاريخ الإنساني - وهي التي تراقب الله في كل شيء، وتعتبر الميزان بينها في عملها هو رضى الله تعالى؛ فتقف ضد شهوات نفسها إذا تعارضت مع رضى الله، وتقف ضد رغبات الناس إذا تعارضت مع مع رضى الله، وعلى حد تعبير الإمام علي بن أبي طالب : ”ما رأيت شيئاً إلاّ ورأيت الله معه وقبله وبعده وفيه“؛ لأنّ المسألة هي أنها تؤمن بأنَّ الله تعالى هو الأول والآخر في وجود الإنسان، فلا قيمة للناس أمام الله، ولا قيمة لرضى النفس أمام رضى الله، بل إن النفس إذا أرضت ربها ضمنت سعادتها.

فالفوز العظيم هو أن تقف في الآخرة لترى نفسك في مواقع رضى الله تعالى.. وأي سعادة أعظم من إحساس الإنسان بالجنة، يقول تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ..

ونقرأ في آية كريمة أخرى، تقارن بين الذين اتبعوا رضوان الله فأطاعوه فيما أمرهم به ونهاهم عنه، وبين الذين أسخطوا الله فعصوه في أوامره ونواهيه، يقول تعالى: ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.

ويحدّثنا الله تعالى فيقول: ﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ، قد تحصل في الدنيا على الكثير من الأموال والعقارات ووسائل النقل وما إلى ذلك، ولكن كل ذلك سوف تودعه ويودعك عندما تنتهي حياتك، أما الخير هو أن تربح الجنة والأزواج المطهّرة ورضوان الله تعالى.

ويقول الله تعالى أيضاً في مقام المقارنة: ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.

وقد جاءت توصيات النبي ﷺ لتضع لنا بعض القرارات المهمة، والتي من عمل بها توشح بلباس الرضى، يقول ﷺ: ”ثلاث يبلغن بالعبد رضوان الله: كثرة الاستغفار، وخفض الجانب، وكثرة الصدقة“.

فكثرة الاستغفار: هو أن يلتفت الإنسان إلى ذنوبه ويستغفر ربه منها، فلا يتعقّد الذنب في نفسه بل يبادر إلى التوبة منه وطلب المغفرة من الله تعالى.

وخفض الجانب: هو تواضع الإنسان لله وللناس فإنه يكسب رضى الله بذلك.

وكثرة الصدقة: لأنّها تطفئ غضب الرب.

وهناك التفاتة مهمة جاءت على لسان الإمام علي بن أبي طالب ، فيما يتعلق باهمال الكثير منا إلى الطاعات الصغيرة، فقد يستهين بها الإنسان، وربما تكون هي مفتاحاً من مفاتيح رضى الله سبحانه، يقول : ”إنّ الله تبارك وتعالى أخفى رضاه في طاعته فلا تستصغرن شيئاً من طاعته فربما وافق رضاه“.

وكان أنبياء الله الكرام يتلمسون طريق رضى الله دائما، ويسألونه المدد والعون.. فقد جاء في الحديث أنّ النبي موسى ناجى ربه فقال: «يا ربّ، دلّني على عمل إذا أنا عملته نلت به رضاك. فأوحى الله إليه: يا ابن عمران، إنّ رضاي في كرهك ولن تطيق ذلك.... فأوحى الله تعالى إليه: إنّ رضاي في رضاك بقضائي» بمعنى: أن الرضى فيما تكرهه نفسك أن تعمل به، وهذه من أصعب الأمور، فكيف يستطيع أحدنا أن يقوم بعمل يكرهه؟!! فهذه تحتاج إلى رياضة وترويض مع النفس شديد.

ولهذا أمَّده الله سبحانه بقاعدة أخرى، وهي: عندما ترضى بقضاء الله عليك في اليسر والعسر، في الشدّة والرخاء، في المرض والصحة، في الأمن والخوف، ولا تجزع ولا تتبرم من ذلك، فإنّ رضاي في ذلك كله.

ومن الأمور المدهشة أن يتحدث رسول الله محمد ﷺ، عن الرضى من خلال رؤية مجتمعية، لها أهميتها في بناء الصحة الفسية لكل مجتمع، فيقول ﷺ: ”علامة رضى الله عن خلقه رخص أسعارهم، وعدل سلطانهم، وعلامة غضب الله على خلقه جور سلطانهم وغلاء أسعارهم“، وهذا كلام عميق، فالرسول الكريم ﷺ أنَّ من أسباب انهيار المجتمعات كثرة المعاصي، باعتبار أنهم يجتذبون كل ذلك بسبب معاصيهم وبما كسبت أيديهم.

ولهذا يؤكد رسول الله ﷺ أنَّ رضى الناس في معصية الله إذلال، فيقول: ”من طلب مرضاة الناس بما يسخط الله كان حامده من الناس ذاماً ومن آثر طاعة الله بغضب الناس كفاه الله عداوة كل عدو، وحسد كل حاسد، وبغْيَ كل بغيّ، وكان الله عزّ وجلّ له ناصراً وظهيراً“.. ف ”عندما تطلب رضى بعض الناس عنك وذلك بأن تتقرّب إليهم بمعصية الله، من خلال ظلم من يريدون لك أن تظلمه وبإثارة الفتنة التي يريدون منك أن تثيرها في المجتمع، فإن هؤلاء الناس يحتقرونك، بعكس بعض الناس الذين يحترمهم أعداؤهم لأنهم يحترمون مبادئهم، بينما العملاء الذين يتعاملون مع الأعداء فيظلمون أهلهم ويقتلونهم ويتجسسون عليهم فإنهم قد يحصلون على بعض ما يريدون من أعدائهم، ولكنهم يعيشون الاحتقار، وهذا ما لاحظناه في العملاء الذين تعاونوا مع اليهود“.

أما الإنسان الذي يهمه رضى الله، ولو لم يقبله الناس، فلا يسمح لهم أن يسقطوه، لأن الله تعالى سوف يكفيه، وقد يبغي عليه الباغون ولكن الله تعالى ينصره عليهم في نهاية المطاف.

وقد ورد في الحديث الشريف: ”من اتقى الله يُتقى، ومن أطاع الله يُطاع، ومن أطاع الله لم يسأل سخط المخلوقين، ومن أسخط الخالق فقَمِنٌ به أن يحل به سخط المخلوقين“.. فالمتقي يزرع الله هيبته في نفوس الناس، والمطيع لله يعيش محترماً في أعماق الناس عندما يرونه مخلصاً لربه ومبادئه

ومن الكلمات الرائعة ما كتبه الإمام علي لعامله على مصر محمد بن أبي بكر قال: ”إن استطعت أن لا تسخط ربك برضى أحداً من خلقه فافعل، فإن في الله عزّ وجلّ خلفاً من غيره، وليس في شيء سواه خلف منه“.. فتأمل معي: إذا تركك الله فمن ينصرك من دون الله؟!

و”لأنَّ رضى الناس غاية لا تدرك“ ندرك صعوبة رضى الناس، والحل هو أن نرضي ربّ الناس وخالقهم؛ لأنّ الله عز وجل هو الذي يحوّل قلوب الناس إليك ويحببك إليهم، وكما جاء في الحديث: ”صانع وجهاً واحداً يكفك الوجوه“، أي: تقرّبْ إلى الله وسوف يكفيك التقرّب إلى الناس.

وقد أوصى علي بن أبي طالب ابنه الحسن فقال: ”فما طلابك لقوم إن كنت عالماً عابوك وإن كنت جاهلاً لم يرشدوك، وإن طلبت العلم قالوا متكلّف متعمّق، وإن تركت طلب العلم قالوا عاجز غبي، وإن تحققت لعبادة ربك قالوا متصنّع مراء، وإن لزمت الصمت قالوا أنكد، وإن نطقت قالوا مهذار، وإن أنفقت قالوا مسرف، وإن اقتصدت قالوا بخيل، وإن احتجت إلى ما في أيديهم ذمّوك، وإن لم تعتد بهم كفّروك“.

فالحل هو أن نعرف الله تعالى، وأنه الأول والآخر، وأن نراقب الله تعالى في كل عمل نعمله، وفي كل موقف نقفه تأييداً أو رفضاً.

أيها الإنسان.. إذا أحسنت في عملك، وفي قولك، وفي إدارتك، وفي تجارتك، وفي تربيتك وفي بيتك أعزك الله، وإن أخطأت أذلك الله..