آخر تحديث: 23 / 4 / 2024م - 9:08 ص

الدراسات الثقافية البريطانية

محمد الحرز * صحيفة اليوم

المفكر البريطاني ريموند وليامز أحد المؤسسين للدراسات الثقافية البريطانية هو والآخر ريتشارد هوغارت يحدد - في إطار مدونة هذه الدراسات - مفهوم الثقافة في مستويات ثلاثة «راجع كتاب غبش المرايا، إعداد وترجمة خالدة حامد، منشورات المتوسط 2016» إذ لا يمكن للباحث أن يغفل عن هذا التحديد إذا ما أراد أن يمتلك أدنى معرفة بالتأثيرات الثقافية على مجمل الحياة الاجتماعية للبشر.

أول المستويات هو ما يسميه الثقافة المعيشة lived وهي تلك المرتبطة بفئة من الناس الذين يعيشون في زمان ومكان محددين، حيث يصعب استرجاع حياة تلك الثقافة المعاشة عند هؤلاء الناس بكامل تفاصيلها اليومية. أما الثاني فهو ما يطلق عليه الثقافة المدونة recorded وتعني كل تلك الآثار المدونة في كتب متنوعة الاختصاصات أو معالم روحية أو فنية أو طقوسية يومية، أي بما يشكل في مجمله ثقافة عصر من العصور. آخره ما يسميه ثقافة التراث الانتقائي selective tradition. وهو يعني القناة التي تصبح صلة الوصل بين ماضي الناس وحاضرهم، وهو بالضرورة انتقائي.

ويشرح ريموند وليامز عمل هذه المستويات ومدى ارتباطها على مستوى التأثير وشكل العلاقات. وباختصار تمتنع الثقافة المعيشة أن تكون مكشوفة وقابلة للدراسة في العصور اللاحقة؛ كون الإمساك باللحظة المعاشة لكل فرد ومن ثم توثيق أقوالها وأفعالها في مجرى الحياة اليومية هو من رابع المستحيلات، حتى لو فكرنا أننا الآن في عصر تقني سمعي بصري يستطيع توثيق كل لحظة في حياتنا. ماذا يكون البديل إذن؟ الثقافة المدونة هي البديل هنا، وتكون نوعا من الانتقاء أيضا. لكنه انتقاء لا يخضع بالضرورة لسلطة مهيمنة كما يفترض المستوى الثالث من التحديد، بل المدونات الثقافية للمجتمعات والشعوب ترتبط بجملة من الأسباب في شأن علاقتها بالمجتمع، فهي أولا تمثل المنجز «الرفيع» لثقافة المجتمع من فكر وفن ولغة وأدب، وهي ثانيا تمثل الفلكلور الشعبي القصصي المتوارث عبر مخيلة شعبية طقوسية تنهض عليها شخصية الفرد داخل المجتمع، وهي ثالثا تمثل له إحدى القيم الكبرى التي يتصور من خلالها نفسه وعلاقته بالآخرين والعالم. كل هذه الأسباب من طبيعة اجتماعية تاريخية اقتصادية لا ترتبط بأسباب هيمنة القوة والسلطة على الثقافة - وإن كانت هناك احتمالات ضعيفة حسب إمكانية القوة - بقدر ارتباطها بالمجتمع نفسه في علاقته الطبيعية بثقافته أي ما اصطلح عليه «الطبيعة والثقافة» دون الأثر الذي تتركه السلطة على هذه العلاقة. صحيح أن هذا المنظور للثقافة لا ينفي هذا الأثر كليا. لكنه يضع في الحسبان أيضا هامش الحرية التي تتركها الحياة «وأقصد الحياة هنا كل ما تحمله الكلمة من دلالة تتعلق بالظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية التي لا تستطيع القوى المهيمنة القبض عليها وتغيير مساراتها لمصلحتها»، وبالتالي وفرة المنجز الثقافي والمعرفي للشعوب والمجتمعات ترتبط بهذا الهامش سعة وضيقًا.