آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 9:19 م

أيها الهارب

أيها الإنسانُ الهاربُ من اللامحدود والمكتفي والراغب والسعيد بالمحدود، أنتَ لم تقطع كلَّ هذه المسافاتِ في الأصلابِ والأرحام فقط لتسكنَ هذه الدنيا بضع سنواتٍ وترحل. لا بد أنها حلقةٌ من سلسلةِ حياتكَ الابدية فلا تقيد قلبكَ وعقلكَ بها. يكفيكَ أنك قيدتَ جسدك المادي بها.

أيها الهاربُ من الرحلة الممتعة، لو تعلم ما في رحلتكَ الآنية من مللٍ وتكرارِ مناظرِ البؤسِ والشقاء لم ترغب فيها أكثر. تسافر في الدنيا وتتمنى أن تسافرَ كُلَّ يومٍ مكاناً. تصل إليه وتعرف أنه محدود، تمل وتعود. هناك لا تتطابق ولا تتماثل المشاهد ولا الجغرافيا ولا الأشخاص ولا اللذات ولا التاريخ.

أيها الهارب، هل سألتَ من سافرَ قبلكَ ماذا رأى؟ أنت تعرفُ الكثيرَ منهم وتعرفُ عنوانهم. تحدث إليهم يجيبوك، فقط انصت بروحك لأرواحهم. مُرَّ بين الصفوفِ وتَعَرَّفْ على الصور التي نسيتها. هذا جاركَ القديم، هذا صديقكَ العزيز، هذا عدوكَ اللدود. كلهم هناكَ ولم يعودوا. اسألهم هل ملوا الرحلة، هل كل يوم يشبه الآخر!

أيها المقيم هنا، هل ترغب في الملذات! إنها متناهيةٌ في الطعمِ واللونِ والرائحةْ. أنت تعرف الاسماءَ الظاهرية للملذات لأنك محدود الحواس ولو علمتها بقلبكَ يقيناً ما بقيتَ ساعةً وركضتَ نحوها. يخبركَ الربُّ بأسماءِ وصفاتِ ما ترى هناك ولكن بلغةِ حواسكَ المحدودة هنا وليس هناك.

أيها الخائف، هل ركبتَ بحرَ الحزنِ يوماً ثم هبت رياحُ الفرج! كانت غيمةً سوداءَ لو أظلتكَ طويلاً منعت عنكَ ضوءَ الحياة. ليس هناك غيومٌ بل شآبيب فرجٍ لا ينقطع. نحنُ هنا نرى رحمةَ الربِّ بحواسٍ متناهية وهناكَ تنفتح الرحمةُ ونراها بعيونٍ ومرايا جديدة.

أيها الصديق، هل تحب صديقك! تحبهُ يوماً وتمل منه في غدِ. هناكَ لا ملل لأن قلبكَ انتزع منه المادةُ الجالبةَ للملل فانفتح صدرك وقلبك على حبِّ صديقكَ ولا تمل منه.

أيها الهارب، أنت تهربُ من محتومٍ في عالمٍ محدود تمشي إليه بهوائكَ ودوائكَ وأكلكَ وشربكَ ونومكَ وكلَّ جوارحك. تجلب لنفسكَ المرض والتعب والهم والفناء. هناكَ قواكَ لا تتعب وأنت واقفٌ في نقطة الزمن اللامتناهي، إليك يستسلم كُلُّ داء.

أيها الطالب، كم أنت جاهلٌ في علمك المحدود، تعلم ظواهرَ الأشياءِ وتظنَ أنها حقائق حتى تصل اللامحدود وتعلم أنك كنت جاهلاً في كُلِّ شيء.

أيها الصامت، تسمع أصواتاً تؤذيك، هناكَ لا أصواتَ ولا يزعجك الضجيج، كل من حولك حكماء وصامتون، يتكلمونَ متى ما كان في الكلام فائدة وإلا هم صامتون.

أيها الباني، هل حسبتَ كم يدوم البناء في بيئتك المحدودة وهل بنيتَ فقط لتهدمَ من جديدٍ ما تبنيه. بنائكَ هناك لا تهدمه العواصف أو تطيح به الساعات، مبنيٌ في غاية الكمال اللامتناهي. هل بنيتَ هنا كوخاً من الرملِ بين السواقي! ليس هناكَ سوى القصور على هياكلَ لا تنهار. لا يحتاج منك جهداً لتصينهُ أو شخصاً يعينك في البناء.

أيها الزاهد في الرحلة، ليسَ لك قدرةٌ ألا تذهبَ فيها وتبقى في شقاءِ الهروب. قدركَ ووجهتكَ معروفةٌ، أنت لا تعرفها ولكن عليك الاستعداد لها. لا تخف ما عليكَ سوى أن تعرف من أي شيءٍ أنت هارب!

أيها الهارب، لا يعشيكَ ضوءُ الشمس عن معرفةِ الطريق...

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 2
1
طاهرة آل سيف
[ صفوى ]: 25 / 2 / 2018م - 10:51 ص
الهارب صفة الإنسان الصحيحة فعلاً ، يبقى الإنسان هارباً من الحياة الأخرى لجهله بما فيها فيتشبث بالدنيا لمعرفته بها ، و ماهربه إلا بسبب جهله بتلك الحياة ومايكون فيها، لربما لو حكوا لنا من ارتحلوا ماوجودوا فيها لهدئنا وتهيئنا ، ولكن الأثر منقطع والأخبار مبتورة . كل الشكر لك أستاذ هلال
2
أ م طاهرة السيف
[ صفوى ]: 27 / 2 / 2018م - 7:23 ص
فكر عميق
ونظرة صائبة للحياة الدنيا
فهي زائلة لامحالة
مستشار أعلى هندسة بترول