آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:57 ص

حائط «ولاية الفقيه»...!

ميرزا الخويلدي * صحيفة الشرق الأوسط

في عام 1905 أطلق رجل شجاع في إيران نواة الثورة الدستورية، التي كان يمكن أن تقدم منجزاً على الصعيد السياسي في تلك الأرض وفيما حولها، وتضيف رصيداً لتطور الفكر السياسي الإسلامي. ورغم ما خلّفته تلك الثورة من تشكيل وعي بقيمة الحرية، مع حساسية نحو الاستبداد، فإن الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 وجّهت ضربة قاصمة إلى تلك الحركة، وإلى مسار الوعي الذي أنتجه.

بين نظرية ولاية الأمة على نفسها، التي استنبطها بنحو عميق وشجاع الميرزا محمد حسين النائيني «1857 - 1936»، ونظرية «ولاية الفقيه المطلقة» التي صاغها الخميني ومثّلت خريطة طريق لهيمنة رجال الدين على السلطة في إيران، فاصلة عميقة وواسعة بين تجربتين: واحدة سعت لتأسيس دولة حديثة ونظام ديمقراطي يرعاه شعبٌ حرّ، وأخرى أسست لدولة ثيوقراطية، يهيمن عليها رجال الدين، ويحمّلون الدين مساوئ السلطة وارتكاباتها.

تُعد رسالة «تنبيه الأمة وتنزيه الملّة» التي صنّفها محمد حسين النائيني عام 1907، خطوة متقدمة للتأصيل الفقهي لقيام سلطة مدنية بالمفهوم الحديث، بل ربما ترقى لأن تنظّر لقيام دستور «علماني» قائم على الفصل بين الدين والسياسة.

تقوم نظرية النائيني عملياً على ركنين أساسيين: مقاومة الاستبداد السياسي، ومقاومة الاستبداد الديني. بالنسبة إلى السياسي هو يقترح «الدستور» عقداً اجتماعياً يحدد صلاحيات السلطة ويقيدها برضا الناس واختيارهم، ويحدد مبدأين رئيسيين لضمان استقامتها، هما: الحرية والمساواة، ما يمنع وقوعها في الاستبداد، كما تقوم على عمودين: الدستور؛ الضامن لحقوق الشعب وحرياتهم خاصة، ومجلس الشورى «البرلمان» الذي ينتظم فيه وكلاء الشعب لمراقبة الحكومة ومحاسبتها.

وبالنسبة إلى الاستبداد الديني، فهو لا يقل خطورة - برأي النائيني - عن الاستبداد السياسي، فهو يقيّد سلطة الفقيه لأدنى مستوياتها، مقترحاً نظرية «ولاية الأمة على نفسها»، معتبراً أن الوصول إلى هذه الغاية طريقه الانتخاب. يؤمن النائيني بأن ولاية الأمة على نفسها «شأن سياسي وليس شأناً شرعياً»، وأن هذه السلطة ليس لها شكل محدد بل هي متغير حسب الزمان والمكان وطبيعة المجتمع.

من نافلة القول، أن الحديث عن سلطة دستورية، وحكم قائم على الشورى، وتقييد عمل الحكومة، ونزع ولاية الفقهاء عن الأمة، والتأصيل لولاية الأمة على نفسها وغيرها، لا يمكن أن تنسجم مع التراث الفقهي والديني التقليدي الذي يعتبر السلطة امتداداً لظل الله على الأرض، وتجسيداً لحق إلهي، فما بالك إذا اقترنت السلطة برجال الدين. بل ربما نبالغ بالقول: إن تلك المصطلحات كانت تستقي أو تلتقي مع المفكرين الفرنسيين الذين قدموا نظريات في الفكر الدستوري أمثال مونتسكيو وجان جاك روسو، وغيرهما، في القرن الثامن عشر.

لم تتقدم نظرية ولاية الفقيه خارج إيران، إلا بالمقدار الذي وظّفته السلطة لتكريس نفوذها. فقد بقيت عارية من أي شرعية دينية، لم يتبناها أي من الفقهاء المرموقين. بجوارها «العراق» نشأ نظام سياسي هيمنت عليه الأحزاب الإسلامية، وفيه مرجعية دينية لكنها لم تؤمن يوماً بنظرية ولاية الفقيه، ولم تمنح نفسها الحق في استغلال الفرصة السياسية لبسط نفوذها أو النيابة عن الأمة في اختيار سلطتها، فضلاً عن إجبارهم أو قهرهم أو التحكم بمصيرهم باسم الدين، لم تفرض نمطاً سلوكياً أو أخلاقيا، فضلاً عن تحديد أشكال السلطة وطريقة عمل الدولة... المرجعية في النجف هي النقيض التام لصورة الحكم الكهنوتي في إيران.

اليوم «ولاية الفقيه» أصبحت عائقاً أمام قيام دولة مدنية حديثة طبيعية ومتصالحة مع نفسها ومع الآخرين... وعاجزة عن تلبية طموح الشباب في إيران... أصبحت كحائط برلين عزل شعبها عن العالم، هذا الحائط لا بد أن يسقط...!

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 2
1
Salman
[ القطيف ]: 1 / 3 / 2018م - 8:38 ص
تحية طيبة لك استاذي العزيز
انا اشوف لو تكتب عن شي ثاني افضل لك خلي ايران ونظامها السياسي وعزلة شبابها ع قولتك
وتكلم يا اخي العزيز عن النظام السياسي العربي ان استطعت وعزلة شبابه
تحياتي
2
علي
[ تاروت الربيعية ]: 20 / 3 / 2018م - 3:35 م
يبدو أنّ الكاتب الكريم اكتفى بمطالعة بعض العناوين من الكتاب وبعض الفقرات من هنا وهناك, فأين رسالة النّائيني وأين الدّستور العلمانيّ وفصل الدين عن السياسة؟؟؟؟ الكتاب متوفّر في الإنترنت وبإمكان القارئ الكريم تحميله للاطّلاع على نظريّة النّائيني بنفسه.
أكتفي بما يلي:
1- صرّح الشيخ النائيني في صفحة 109 بوجوب وجود مجموعة من الفقهاء العدول أو أشخاص منتدبين من قِبَلِهم في الهيئة التي تنتخب الحاكم.
2- قال في صفحة 108 ما نَصُّه (يكفي لصحّته "يعني الدستور" ومشروعيّته عدمُ مخالفة فصوله للقوانين الشرعيّة) وفي ص189 (فوجود المجتهدين وحصرُ وظيفتهم الرسميّة بالحيلولة دون ظهور مواقف مخالفةٍ للشريعة يُعَدُّ كافيًا إذا كان العملُ خالصًا من الأمراض والأغراض الخاصة) وفي ص 196 (ومن الوظائف والمهامّ التي يجب على نواب المجلس القيامُ بها : النّظرُ في عمليّة وضع القوانين وضبطها وإحرازُ تطابقها مع الشريعة الإسلامية والقيامُ بنسخها أو تغييرها إذا دعت الظروف لذلك)
ثم قَسَّمَ الوظائف المتعلقة بتنظيم البلد إلى (أ) أحكام منصوص عليها في الشريعة, وهذه لا يجوز تغييرها إلى قيام الساعة, ولا يقع التّشاور فيها أصلًا, و (ب) أحكام لم يرد فيها نصٌّ فهذه موكولة إلى نظر الوليّ, وتختلف باختلاف الزّمان والمكان, وهي موكولةٌ إلى نظر النّائب الخاصّ للإمام وكذا الوكلاء العامّون (الفقهاء) أو من كان مأذونًا له.
النتيجة : من الواضح جدًّا إصرارُ الميرزا النّائيني على أن لا تتنافى القوانين الوضعيّة مع الأحكام الإسلاميّة, وأنّ الأحكام المنصوص عليها في الشّريعة غير قابلة للتغيير أبدًا, فحدّ السّرقة والقصاص مثلًا لا يقبلان التغيّر من زمان إلى زمان أو مكان إلى مكان, وهذا يتنافى مع أبجديّات الدّولة العلمانيّة!!! هل جعلُ عدم مخالفة الدّستور مع قوانين الدّين شرطًا في صحّة الدّستور قريبٌ إلى العلمانيّة؟؟؟ لا أدري لعلّ هناك علمانيّة جديدة لا نعرفها