آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 2:39 م

معرض للكتاب أم ذاكرة للكتب؟

محمد الحرز * صحيفة اليوم

لا يبدو الأمر كما تريد، الرغبة التي تصعد من أعماق الشعور بسرعة تفوق سرعة الضوء، وتسري في الخلايا الدموية كما تتسلق العظام حتى تصل إلى اللسان وتتجمع في أطرافه. هذه الرغبة سرعان ما تصنع من نفسها كلمة واحدة، يتردد صداها ليس في فضاء الحلق، بل في الفضاء العام للرأس وكأنها الريح التي تدخل الغابة المليئة بالأشجار ثم تخرج منها وقد أخذت معها ليس الأشجار فقط. لكن حتى ذكرياتها القابعة في الجذور. الكلمة المدوية لا تهدأ وهي لا تشير، ولا تركن إلى معنى محدد، ولا تستقر على ما تقع عليه من ألفاظ. لذلك أنت توهم نفسك أن ما تقصده بالدرجة الأولى هو أنك أمام ذاكرة للكتب لا يتسع العالم لإدراك حدودها بينما ما يتم الإعلان عنه هو أنك أمام ما يسمى «معرض الكتاب»، والمسافة التي تراها بين ما يتصل بالذاكرة وبين ما يتصل بالمعرض هي نفس المسافة التي تراها بين طريقين: الأول ينتهي بك إلى عالم من السحر والجمال، بينما الآخر ينتهي بك إلى مزيد من المتاهة والحيرة والضياع.

نعم.. ليس الأمر كما تريد، فالرغبة التي تكاد أن تنفجر من فرط الشغف إلى ملامسة الكتاب لا تتناسب وكلمة «المعرض» التي هي أقرب إلى دلالة السوق، إنها دلالة تميل إلى الابتذال، وتخلف وراءها كل ما يخلفه السوق التجارية من تعاملات وحشية تسيء للإنسان بقدر ما تسيء للكتاب. سعر الكتاب المرتفع، طريقة عرض الكتب، تسويق التافه منها، نوعيتها، ضحالة ثقافة بعض الناشرين، جميعها ترسخ فكرة الكتاب بوصفه سوقا. أليس هذا الكلام يدخل من باب الحقيقة التي نتغافل عنها؟ لماذا لا نختار اسما آخر غيره، يناسب هذا الشغف الذي نتحدث عنه؟ ذاكرة الكتب أقرب في دلالاتها إلى أن تكون حلم الإنسان في إدراك نهاية العالم، وهو حلم كثيف الحضور، لا ينتهي، يتجدد مع كل مناسبة يكون فيها الكتاب محل احتفاء وتجمع جماهيري. لكن الحلم لا يتجاوز الحقيقة ولا يلغيها، بل في أغلب الأحيان يتعايش معها كما يتعايش شخصان في مكان واحد دون روابط أسرية تجمعهما. حوار خاطف في جملة أو جملتين مع صديق كم كنت ترغب كثيرا في رؤيته تحت مظلة «معرض» الكتاب هو نوع من التعايش مع الحقيقة، رؤية أحدهم وهو يتصفح كتابا ويتحسس صفحاته بجلدة يديه، وترى عينيه غائرتين في محجريهما من شدة النظر في صفحاته هو أيضا نوع من التعايش مع الحقيقة. لذلك في مثل هذه المناسبات الكتاب يحلم من خلالنا ويذهب في حلمه إلى الحد الذي تنزل أسماء الكتب ومؤلفيها من فوق الرفوف وتتمشى بين أجنحة «المعرض» وممراته، إذ يفتحون في ممشاهم ممرات أخرى تفضي بالناس إلى حقول مضيئة في رؤوسهم لم يسبق لهم أن عرفوها في أحلامهم ناهيك عن معرفتها في حياتهم. هذا التعايش يلغي أهمية التساؤل حول التسمية، ويغدو كونه معرضا أو ذاكرة للكتب لا معنى. ربما يكون ذلك، وربما يكون التجديد في التسمية هو تجديد للنهر الجاري في أعماقنا عن معنى الكتاب؟!.