آخر تحديث: 18 / 4 / 2024م - 4:55 م

حبيبتي والتوحيد

جلال عبد الناصر *

”حبيبتي والتوحيد“ وليس ”موسى والتوحيد“ لسيجموند فرويد فهي حكاية من الخليج. وصديقي هو بطلها وهو مثقف كان يشد رحاله في كل ليلة نحو قصور الدولة العباسية ويتجول في شوارع بغداد. ولم تكن تلك الاسفار إلا لأجل البحث عن ذاته التي تاهت بين مطرقة الشك وسندان اليقين.

فتارة يرى الخالق من حدائق الاندلس بعيون ”ابن رشد“ وتارة يراه من الخانكة في حضرة أبو حامد الغزالي. ويبدو بأن الاخير قد ترك فيه الاثر الاكبر إلى أن وجد نفسه قد رضع من أفكاره، وراح يختبر تلك الافكار تحت مجهر الشك فهو أول مراتب اليقين كما يقول ”ديكارت“. وحينما راح يحاول أن يثبت معتقداته بناءا على الدليل العقلي لا الموروث الديني، كان قد تفاجأ بأنه في حرب مع ذاته، وما كان منه إلا أن يعتزل الناس ويحيط نفسه بجدار يحمي نفسه من نفسه التي كادت أن تصادر له عقله.

وفي إحدى المناسبات الثقافية كان موعده مع وهج من نور بل هو من يضخ الحياة في النور، وقد يكون هو ذلك النور نفسه الذي اهتدى به قلب ”الغزالي“. فقد رست قبالته فتاة وكأنها مزيج من جمال كل حضارات الارض. وما ان بدأ يتيه في ملامحها حتى خيل له حينها بأن الاصوات من حوله قد بدأت بالتلاشي وبينما هو في القطيف. الا أن يمناه صارت تسمع أصوات تكبيرات تنبعث من مآذن النجف، ويسراه تسمع صوت قرع أجراس قادمة من الجليل. ثم شعر بلحظة صمت مطلق وكأن الطبيعة في لحظة سجود للرب. وفجأة بدأ الناس من حواليه بالاختفاء واحد تلو الاخر وأحس بأن الارض من تحت قدميه قد تحولت إلى سحاب. وراح نور الشمس يسطع من خلف تلك الفتاة، فاستحال الموقف إلى لوحة رائعة لا تحدث إلا مرة واحدة كل عشرة آلاف سنة. وبدأت شفتيه تتمتم قائلة ”سبحان الله“.

وانطلق يتأمل في التناغم الساحر بين تموج حاجبيها ورقصات عيونها ولحن حروفها التي كانت تفوح كالعنبر من بين شفتيها. وأحس بأنها نموذج مصغر لروعة الفلك الذي تدور فيه الشمس والقمر وكل الكواكب بكل دقة، فطلتها تلك لا تختلف إطلاقا عن مشهد روعة إطلالة الشمس عند الشروق.

ثم دارت رحى الايام وخيل له بأنه يجلس مع الغزالي ويدعوه لأن يترك الامراء في قصور أشبيلية ويحط رحاله في شاطئ الخليج. ليرى بأم عينه تلك الفتاة حينما خبأت اللؤلؤ المصفوف بيدها، وراحت تتمايل ضاحكة وزخات من الأمواج تدغدغ قدميها. ويدعوه أيضا كي يراها وهي تلف خصلات من شعرها بأطراف أناملها متمتمة بطرب عراقي أصيل.

فلقد كانت تلك الحسناء خير دليل على فلسفة الغزالي التي ربط فيها كل أنواع الجمال بالجمال «الالهي». وان الجمال الحقيقي عندما تدركه القوى الحسية والقوى الباطنة من شأنه أن يدعوك لأن ترى الخالق كما يجب أن تراه لتهيم في عشقه مثل ما الصالحين. وأنه لا جمال في هذه الدنيا إلا وهو حسنة من حسنات الخالق وأثر من جوده وكرمه على عباده.

وختاما يقول صديقي المثقف شكرا لتلك «المشاكسة» التي لولاها ما أدرك قيمة عبارة ابو حامد الغزالي حينما قال ”من لم يحركه الربيع وأزهاره، والعود وأوتاره فهو فاسد المزاج ليس له علاج“.

وهنا كانت محطته الاخيرة عبر قاطرة الشكوك والتي لو لم يترجل منها لربما كان نزيل في إحدى المصحات النفسية.

اختصاصي نفسي في مجمع إرادة للصحة النفسية بالدمام