آخر تحديث: 24 / 4 / 2024م - 11:56 م

بياناتنا الضخمة وهواجس كامبردج أنالتكا!

الدكتور إحسان علي بوحليقة * صحيفة مال الالكترونية

للبيانات الضخمة سمات تجعلها تستحق مساراً خاصاً، هناك من ينظر لها باعتبارها ثروة، وهو محق. لكن الجانب الأخر هو أن عدم الاهتمام بها يعني انكشافاً خطيراً، بما يبرر القول إن خط الدفاع الأول لتحقيق أمن المعلومات هو ”الدفاع“ عن البيانات عموماً والبيانات الضخمة بالأخص. وليس سراً أن انفتاح مجتمعنا السعودي على وسائل التواصل الاجتماعي انفتاحاً كبيراً، له مزايا، ولكن مع انفضاح أمر ”فيسبوك“ مع ”كامبردج أنالتيكا“ فهناك توجس لابد أن يشخص أمام كل مهتم بأمن البيانات؛ ما الذي تعرفه عنا، أفراداً ومجتمعاً، ”فيسبوك“ وأخواتها، وما الطرق التي قد تستخدمها لتوظيف تلك البيانات؟! هل تعلم أنت - القاريء الفاضل - كم المعلومات الذي تعرفه عنك فيسبوك؟ تعرف أكثر بكثير مما توقعه بما يكفي أن يصدمك.

إن كان من تخلف معلوماتي يعيشه مجتمعنا، فلا يتعلق بالأجهزة والمعدات من حواسيب وخوادم، ولا من حيث البنية التحتية، ولا أقول إن لدينا الأفضل، لكن ما لدينا يعتبر من بين الأفضل في فئتنا من الدول النامية. أما التخلف فهو في تعاملنا مع البيانات إجمالاً. فالبيانات هي الثروة الحقيقية، وليست الأجهزة التي تبوبها وتعالجها، فمنذ ما يزيد عن عقدٍ من الزمن تحولت الأجهزة الحوسبية إلى سلع مبذولة تعرض بأسعار بخسة، الآن، انظر حولك في أقرب محل لبيع الكمبيوترات ومستلزماتها فتجد حواسيب حجرية «laptop» بقوة معالجة خرافية وذاكرة ذات سعة من الصعب تصورها، وأقراص صلبة سعتها تقاس ب ”التترا“! إذا، هناك وفرة في الحواسيب وطاقتها المعالجية، مقرونة برخص نسبي مما يجعلها في المتناول، وليس أدل على ذلك مما نشاهد من انتشارها في كل يد، وليس فقط في كل بيت.

وأعود لأقول إن الثروة الحقيقية هي البيانات؛ فإيجابياً، يمكن أن تستخرج منها قيمة مضافة؛ من خلال تجميع وتنسيق بيانات ملايين البشر، وشبكات معارف كل منهم، وأنماط الاتصال، والاهتمامات والتوجهات والتحيزات، وليس فقط عن الأشخاص بل عن كل أمر يهمنا. تطبيقات ”التواصل الاجتماعي“ قائمة على أساس واحد وهو ”الشبكة“ والتشابك وتطوره عبر الزمن أمر يفضي للكثير من الاستنتاجات. وسلبياً، يمكن أن تمنح منافسينا والمناوئين سلاحاً ضدنا إن وقعت في أيديهم ليعرفوا عنا كل خافيةٍ، بما ينتهك الأمن الشخصي والاجتماعي - الاقتصادي، بل وحتى الأمن الوطني للضرر. فهل وقعت بياناتنا في أيدي ”فيسبوك“ وشقيقاتها؟ ليس فقط ليعرفوا بل ليتاجروا بما يعرفوا. وقد فعلوها مع ”كامبردج أنالتكا“ فما يمنع أن يكونوا قد فعلوها قبل وربما بعد، وعلى مستوى بلدان أو مجتمعات!

وفي وقتنا الراهن، يرتكز علم البيانات إلى دراسة خصائص البيانات باعتبار أنها أساس المعرفة، فالبيانات المتناثرة عن شخص أو حتى أشخاص قد لا تحمل أسراراً خطيرة على الأمن والسلم الدوليين، لكن توليف البيانات ومضاهاتها لآلاف البشر يعني الشيء الكثير؛ تصور لو أن أحد تمكن من جمع وتحليل بيانات التراسل على مستوى الحي حيث تسكن، ليعرف تفاصيل حياتية لا تمثل بذاتها لأي منا أهمية كبيرة؛ مثل من أين تشتري المقاضي، وأين تكوي ملابسك، وأي مقهى يرتاده سكان الحي، الخ. بيانات من هذا النوع يمكن أن تكون ثروة لوضع استراتيجية تسويق أو افتتاح محلات جديدة لمنافسة ما هو قائم.

الآن، بناء لوحة ضخمة من قطع وشظايا بيانات متناثرة هنا وهناك هي علم البيانات الضخمة. والبيانات الضخمة متعددة المصادر والخصائص، والجهد هو قولبتها لتصبح سنداً لاتخاذ القرار. وهناك من يحرص أن يبني لوحات ”فسيفسائية“ ضخمة من نثار بياناتنا، وكثير من هذه اللوحات تنبض بالحياة؛ فمثلاً بوسعنا رسم لوحة لمدينة لنعرف على نبض الحياة فيها بتفاصيله، أي ماذا يفعل سكان هذه المدينة في الصباح وما يفعلوه في المساء لدرجة قريبة من الواقع.

وليس القصد هو إشباع الفضول بقدر ما هو لاستخدام البيانات كأساس لاتخاذ القرار، وهو ما يعرف ب «data driven decision support». وتستخدم البيانات لدعم القرار في الحكومة والقطاع الخاص ومؤسسات النفع العام من خلال تجسيدها على هيئة تمثيل مرئي منفرد بذاته أو عبر بعد زمني أو جغرافي، والتجسيد يفيد متخذ القرار بالتعرف على السمات العامة للبيانات، لكن ”التحاليل“ «analytics» هي التي تفضي للبوح عن مكونات البيانات؛ ما ظهر منها وما بطن.

وعلى الرغم من أهمية المعالجات الأنفة الذكر للبيانات، إلا أن القيمة المضافة الأعلى هي تهيئة البيانات لتستخدم كمُدخلّ في اتخاذ القرار.

ورؤية المملكة 2030 هي قرارنا الكبير، وتقوم على تحقيق جملة من الأهداف «96 هدفاً» عبر مجموعة من البرامج «12 برنامجاً». وما يميز الرؤية إجمالاً هو توجهها للقياس كأداة للتعرف على ما تحقق مرحلياً ومضاهاته بالمتوقع من خلال عدد كبير من مؤشرات الأداء، لاسيما أن تلك المؤشرات والأهداف إجمالاً كمية، مما يجعلها قابلة للقياس.

لكن التحدي لا يكمن فقط في قياس ما تحقق، بل هو - في كثير من الأحيان - التعامل مع نقاط اتخاذ القرار؛ إما بتوليد خيارات أو المفاضلة بين الخيارات المتعددة، فمثلاً لن يكون كافياً أن تبين لنا البيانات توزيع المدارس جغرافياً، ولا توزيعها إلى بنين وبنات، ولا إلى مملوكة ومستأجرة، ولا إلى حكومية أو خاصة، ولكن في وقت من الأوقات سيكون السؤال المطروح أمام متخذ القرار هو - على سبيل المثال -: أين أبني المدرسة القادمة؟ وبالتأكيد فللمساهمة في الإجابة على السؤال المطروح يتطلب استخدام نماذج رياضية وتحليلية لانتقاء البيانات وتمثيلها وتوظيفها وصولاً للإجابة على السؤال المطروح. وفي حالات عديدة، يكون التحدي أمام متخذ القرار أعقد؛ لرغبته التعرف على تأثير القرار اجتماعياً أو اقتصادياً، بمعنى هل سيساهم اتخاذ القرار في الوصول للهدف؟ لنفرض مثلاً الهدف هو رفع المشاركة الاقتصادية للمرأة السعودية إلى 30 بالمائة، فيكون السؤال هل سيساهم مثلاً قرار السماح للمرأة بالعمل ساعات مرنة في تحقيق الهدف «رفع المشاركة الاقتصادية»؟ ولابد من الأخذ في الاعتبار أن الإجابة على السؤال تتطلب محاكاة تأثير تطبيق القرار مستقبلاً «مثلاً للخمس السنوات التالية لتطبيقه».

ويمكن الجدل أن إطلاق مبادرة للبيانات الضخمة والمحاكاة ستساهم في إضفاء بعد إضافي على منهجية متابعة تحقيق الرؤية المتبعة حالياً، القائمة على تتبع مؤشرات الأداء لما تحقق في الماضي، إلى استشراف الأداء مستقبلاً والسعي للمفاضلة بين البدائل عبر محاكاة أداء ومن ثمة تأثير كلٍ منها.

كاتب ومستشار اقتصادي، رئيس مركز جواثا الاستشاري لتطوير الأعمال، عضو سابق في مجلس الشورى