آخر تحديث: 16 / 4 / 2024م - 4:10 م

معنى المعنى والغوص في الدلالات

محمد الحميدي

بداية أشكر الأستاذ والأخ العزيز جمال الناصر على تعليقته على كتاب التحولات والأفكار التي عرضها منه، وبسبب كثرة الأفكار التي تحدث عنها سأتوقف عند نقطتين أراهما أساسيتين في حديثه وسأحاول الإضافة عليهما.

النقطة الأولى تتعلق بعلم الدلالة ونصيحة الأستاذ جمال للأدباء والمنشغلين بالنصوص أن يتجهوا إلى دراسته:

تنقسم العلوم إلى قسمين، طبيعية وإنسانية، فمن العلوم الطبيعية الرياضيات والفيزياء والكيمياء وكل علم يمكن إدراك نتائجه مخبريا، بينما العلوم الاجتماعية أو الإنسانية فهي فرضيات يتم بحثها والإضافة عليها وربما تميزت بعدم وجود دليل مخبري على ما تذهب إليه كالتاريخ والنقد والفلسفة والنظرية الأدبية وغيرها، وإليها ينتمي علم الدلالة.

فعلم الدلالة هو أحد العلوم الإنسانية التي تهدف إلى النقاش حول المعنى، وهذا النقاش يعتمد على أصل نصي، ويمكن أن نجد الأصل النصي في القرآن كما هو حال مفسري وشارحي كتاب الله أو في النصوص الأدبية كالشعر والقصة والمسرحية كما هو حال النقاد والأدباء، ويهدف علم الدلالة إلى الوصول إلى نوعين من المعنى، النوع الأول قريب ظاهر يمكن اكتشافه من القراءة الأولى أو السريعة، بينما النوع الثاني يحتاج إلى تعمق في الفهم والتركيز على السرد الذي وردت فيه العبارة واتصالها بلوازمها كالمكان والزمان والشخصيات وهي ما يسمى قديما وحديثا بالمقام أو الموقف، وقد استغرق عبد القاهر الجرجاني في استقصاء المعاني العميقة وأسماها معنى المعنى، وهو مصطلح من مصطلحات البلاغة القديمة، ويهدف إلى معرفة المعنى الإضافي الذي تفرزه الكلمة في سياقها الجديد.

يعتمد علم البلاغة على نظرية السياق، ويسعى إلى إيجاد الفرق في استخدام الكلمة في كل من السياقات التي تقع فيها ولو أردنا التمثيل سنتجه إلى كلمة القمر التي تشير إلى الكوكب الحجري الماثل أمامنا في السماء بينما لو أردنا المعنى الإضافي أو معنى المعنى سنتجه إلى علاقته بجمال المرأة وأنها توصف بأن وجهها فلقة قمر.

هذا الفارق بين المعنيين الظاهر والخفي هو ما يسعى إليه علم الدلالة بآلياته وأدواته العديدة ويحاول اكتشاف المعنى الكامن في النصوص المدروسة، فالسياق يحدد معنى المفردة ويحدد أيضا المعنى الإضافى الذي تكتسبه بحسب ما يشير إليه الموقف أو المقام.

لعلي أختم النقطة الأولى بالقول إن لكل نص طريقة في الفهم تختلف عن النص الآخر، فالشعر يفهم بطريقة تختلف عن المسرحية والقصة وهم جميعا يختلفون عن طريقة فهم القرآن واستخراج دلالاته، ولو أردنا التوسع لأضفنا النص السينمائي وأنه يُفهم بطريقة مختلفة عن النصوص السابقة، فلكل نص مقاربة معينة يستطيع الإنسان عبرها بلوغ الدلالة النهائية.

النقطة الثانية تتعلق بالفجوات وتواجدها داخل النص:

جميع النصوص بلا استثناء تعتمد أساليب بلاغية وإبلاغية، تتراوح بين الخطاب الهادئ الرصين والخطاب الانفعالي العنيف، وما بينهما تقع الفجوات.

ليس سهلا على القارئ العادي تمييز الفرق بين النوعين المذكورين ولهذا لا بد من عين خبيرة ومدربة على الإمساك بالتوترات الموجودة داخل النصوص، وأهم هذه التوترات ما يمكن تسميته ”الالتفات“ حيث يتم تغيير الضمير المستخدم في الخطاب من الغائب إلى المخاطب الحاضر مثلا، وهذا المصطلح قديم ويستعمل في فهم القرآن وتفسيره.

هنالك نوعان من الفجوات التي يمكن الحديث عنها في النصوص الأدبية، الأولى تشمل الفجوات الكتابية أو ما يعرف بفن السينوغرافيا حيث يتم تمازج الألوان أو الأحجام بالنسبة للخط، فالكلمة الرئيسة قد تكتب بخط عريض أو يوضع أسفلها خط أو يتم تكبير الخط لتبدو مختلفة عن بقية الكلمات، وكذلك هنالك الجمل المنتهية بنقط ”...“ التي تدل على شيء محذوف كأن يكون كلمة أو جملة أو مجموعة جمل، وتستعمل في الشعر كثيرا وكذلك في القصة والمسرحية وإن بنسب متفاوتة.

النوع الثاني يشمل الفجوات المعنوية وهي خاصة بالأحداث والشخصيات المرسومة فالإنسان يمتلك طريقة وأسلوبا وهو ما قد يسمى ”رتما“ أو سياقا يسير عليه، فإذا حدث واختل السياق كأن يأتي التصرف بطريقة غير متناسبة مع الشخصية فإن الخلل الناتج يعتبر فجوة معنوية، وأيضا إذا كانت الأحداث تسير بطريقة معينة وتم قطعها مثل إدخال عامل الصدفة أو الحظ أو غيرهما للتأثير على الطريقة التي تسلكها الأحداث في بنائها ستحدث كذلك فجوة معنوية.

الفجوتان الكتابية والمعنوية تتواجدان في كتابات الأدباء وإن كانت تحتاج إلى عين خبيرة ومدربة لالتقاطها، وخصوصا المعنوية منهما.