آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:57 ص

صفعةٌ من كتابي

المهندس هلال حسن الوحيد *

عادتْ إلى الحياةِ رطوبةُ الجو مع موتِ شهر أيار. أيامٌ من اعتدالِ الحرارةِ والرطوبة لن نراها إلا بعد أشهر. محطاتٌ في حياتنا نسخر منها حين نغادرها وبعد فترةٍ تعود كأننا ولدنا لتبقى فيها أرواحنا مثل المؤمنين لا تنفك تدور حول قبور الأولياء تنادي رحمة الرب.

كنت أنا وشقيقيَ الأصغر نلعبُ في الزقاقِ عندما أتى دورُ المدرسةِ في السابعة من عمري. لم يكن حينها أي تحضيرٍ قبل الصف الأول فلا رياضَ أطفالٍ حيث رأيت نفسي فجأةً في حوزة رجلٍ شامي أرفعُ رأسي كي أرى وجهه يحمل عصاً في طولي ومديرَ مدرسةٍ لا يرحم من يعصي وموظف يعتمر طاقيةً على رأسه ويسدل كوفيتهُ على كتفيهِ يطرق بابَ الصفِّ كل يومٍ يسأل عمن غابَ ومن حضر. أيامٌ رضعنا فيها الخضوعَ والطاعة.

كرهتُ المدرسة خوفاً وحياءً فكنت آتي في الصباحِ ومن ثم أهرب لحقولِ النخيل المجاورة. تعرف أمي أين اختبأُ فوق النخلة المنبطحة، تأتي تنادي أين أنت أيها الصبي؟ وتأخذ بيدي إلى الصف. ضاقت بي ذرعا فأخبَرَتْ أخيَ الأكبر وكان مَثَلُهَا يقول ”عالجها بالكي تبرأْ أو اقطعها تموت“. وقعتُ في يد أخي صباحَ يومٍ هربت فيه وصفعني صفعةً رسمت على خدي واحدْ إثنانْ ثلاثةَ إلى خمسةِ أصابعٍ عددتها  كانت هي الدواء. ربما كان هناك دواءٌ آخر ولكن حينها كان هذا الدواء الأسمى. انتظمتُ ولم أترك المدرسةَ بعدها وقطعتُ جميعَ مراحلها بتفوقٍ ولم تعد أمي تسألني عن نتيجةِ الإمتحان بل عن رقم التمايز. يقال ان المدرسةَ ليست سوى مصنعَ حلوياتٍ أو شرائحَ لحمٍ في ذات الطعم والرائحة والحجم أينما تكون في العالم ولا يدخلها العمالقة أو من يطمع في التفرد.

عندما كنت صغيراً كان من لا يدخل المدرسةَ يساعد والده في جز العشب والاعتناء بالماشية والنخل في جزيرةٍ أقصى الساحل الشرقي لم تزل تعيش بين ضفافِ الحياةِ والموت ولم يكن اقتصادها يسمح بالثراء وكان أهلي يحذروني من سلوك ذلك الطريق. لم أصبح حَشَّاشَاً أجز الحشيشَ كما كان يسميه أهل السنين المنفرطة ولكن بعدما كبرتُ رجعت أجز عشبَ ارضٍ اشتريتها من أجل اللهو فكأنما قدري والعشب  متحدان إذا افترقنا في الصغر التقينا في الكبر.

محطاتٌ وأناسٌ في الحياة نغادرهم ونعود لهم ربما في عقلٍ آخر أو عمرٍ آخر لكننا نعود. كم تمنيتُ أن تأتي أمي وتبحث عن الكهل في غابةِ الدنيا وإن صفعتني. الآنَ لن يدور الزمن ولن تكفي عقاربُ الساعة ولن يعودَ الشامي والحشاشون سوى في رواياتِ حسن الصباغ بين الحقيقة والخيال والهروب من قلعةِ الموتِ فوق صخرةِ الحياةِ العالية من جبال خراسان. اختفت العصا والخوف منها ومن كل شيء حتى الخوف من الغياب والخوف من التفوق الذي كان مخبوءاً في فرعِ شجرةِ الرمان.

اختفت يدُ الأب والأم وجاء مكانها تربيتُ الكتفِ والسؤال ماذا تريد ايها الصغير من أدوات اللعب. بين اليدِ والسؤالْ تمر أجيالٌ كُلٌّ يرى أنه الأصلح للبقاء ومن يستطيع شق صخور الدنيا. تساؤلٌ يبقى مصلوباً على شجرةِ الحيرة حتى ينزله من الصلبِ ما يأتي من السنين.

مستشار أعلى هندسة بترول