آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 2:48 ص

براءةُ الموت

المهندس هلال حسن الوحيد *

لم يَقْسُ البشر على مخلوقٍ أكثرَ مما قسوا على الطفلِ الصغير. منذ أن عرفَ الانسانُ الحياةَ كانت الأرضُ خشنةً على قدمي الطفلِ الصغير. قادهُ الكبارُ قسراً لليُتْمِ والحربِ والبغاءِ وحملِ السلاحِ والقتالِ وبيعِ المحرماتِ وجلبِ المالِ الممنوع وتجربةِ الدواء وبعد كُلِّ هذا قتلوه! أحب الحياةَ وأراد عبورَ البحارِ والمحيطات نحو المدنيةِ التي اعتقد أنها تضمه إلى صدرها ولكنها هي الداءُ وقالت له عُدْ من حيثُ أتيت.

كانت جائزةُ المنتصرين في القديمِ سبيِ النساءِ والأطفالِ واسترقاقهم حتى يموتوا في ذل العبودية. لم تنصفهم الحضاراتُ والتقدم إلا في بعضها وجرى عليهم من الآلامِ ما لم يستطع جسمُ الطفلِ الغَض أن يحمله فمات. لم يضطرب لها قلبُ الكبارِ ولم تشفع لهم عيونهم الحالمةُ وأرواحهمُ الضعيفة. ا

جاءت الطفرةُ الحديثة في رقي البشرِ وظن الطفلُ أنه نجا ولكن هيهاتَ هيهاتْ ”الآنَ قد علقت مخالبنا به يرجو النجاةَ ولا تحينَ مناصِ“. زَرَعَتْ له في كُلِّ خطوةٍ لغماً، في أكله وشربه ولعبه وفي رأسه. صنعت له الأكلَ الرديء الذي يسلبه صحته وينخر جسده وسقته كُلَّ أنواعِ الشرابِ الذي أحالَ جسده كاملاً قبل التمام. عبئت له كُلَّ ألوانِ الأكلِ يشتريها أينما أراد فاعتل مذاقه وتمردَ على ما تعطيه أمه وأبوه من سليمِ الغذاء. ترمي الحضارةُ المستحدثة أطناناً من الغذاءِ والصغير جائعٌ واكواماً من اللباسِ والطفل عارٍ، بنيانٌ يسبحُ في الغيوم والطفلُ تحتَ نارِ الشمسِ وضوء القمر.

حُمِّلَ الطفلُ السلاح في كُلِّ معركةٍ يخوضها الكبار. يناجي نفسه ويسأل عن السبب وكيف يبقى في الحياةِ ولكن نارَ الحربِ تحطمه قبل الكبار. معاركُ تفنن أجودُ وأذكى السلاح كيف ينهي حياةَ الصغيرِ لينامَ في قبره قبل أن تراهُ أمه نائماً في حجرها تلمس شعره وتفرد ما تقطب من جبينه، ربما لاتعلم أين نام الصغيرُ إلى الأبد. تؤلمُ الارقامُ حينما تخبرنا أن بعد مئاتِ الآلاف ممن لن يعودون إلى الحياةِ لن يعود الباقون إلى المدارس. وعندما يغيب العلمُ يدعو الجهلُ كل الخطايا التي تُنتج ذاتَ الشيء.

أراد الصغيرُ أن يلعب. أخذوا ماله واعطوه بدلاً منه من يعلمه الحربَ والكرهَ والبغضَ والقتلَ في حركةٍ يحسبها الصغيرُ اقداماً تشق له اليَمَّ ويمشي خلفها. أخذوا منه عقله وفكره وحتى جسده الصغير. لم يعرف اللعبَ في الهواءِ وتحت الشمسِ مع صغارٍ يكبرونَ ويكونون كتفاً يستند إليه حين تهب رياح الحاجة.

عندما تبتلى الإنسانيةُ في اسها لها الويل! أنتجت كوارثَ لا يستطيع الصغيرُ دفعها عن نفسه وأصبح والدهُ يذبان عنهُ الضررَ بكلتا اليدين  وعيناهما حزينتانِ لا يستطيعانِ جَرَّهُ من براثنِ العنفِ والأسى. عندما يسقط خط الحمايةِ الأوحد تستأسدُ وتستفرد به كُلُّ قوى الشر.

هي الإنسانيةُ والبشرُ ذاتهم الذين أمرتهم السماءُ أن يزرعوا شجرةً صالحةً وأخبرهم عقلهم أن ثمرةَ الشجرةِ في أرضها ومَائِهَا  لكن هواهم زين لهم أن يقطعوا الشجرةَ. لم تمنعهم السماءُ أو مواثيقُ وأعرافُ البشرِ الذين كتبوها في صحوةٍ من سُكْرِ الضمير. ربما يصحو يوماً ما وتعطي روحُ كُلِّ صغيرٍ عنواناً للعالمِ أن يوقفَ الحروبَ يوماً واحداً، لمَ لا!

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
طاهرة آل سيف
30 / 6 / 2018م - 2:22 ص
وأنا أقرأ المقال كان وجه طفلي يترائى بين السطور ، حين جاء يوماً وسألني عمن اخترع السلاح ولمَ الناس تتحارب والأطفال تحزن ، وكثير من الأسئلة حول قسوة الحياة ، عجزتُ عن إجابته ولصقتُ التهمة على ظهر ابليس ..

كم من الألم يا أستاذ هلال فيما كتبت جدالٌ أزلي وعميق بين هذا العالم وماتصنعه بهذا الإنسان ..
علمتُ طفلي دوماً أن يُصلِّي للرب أن يوقف الحرب يوماً ..
مستشار أعلى هندسة بترول