آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 1:33 ص

تحتِ ظلالِ الزيزفون

المهندس هلال حسن الوحيد *

شخصٌ في الحياةِ لا يخبرك منظرهُ عن مخبرهِ ولا تعرف أسرارَ قلبهِ ورقتهِ من خشونةِ يده واسمرارِ وجهه. إنه الفلاحُ والمزارع الذي تخشنُ يدهُ في حرثِ الأرضِ ورعايةِ الشجرةِ وكلما خشنت يداهُ ازدادَ قلبهُ رقةً وحناناً.

انتقل البشرُ من عصرِ الحجرِ إلى عصرِ الماكينة وسرعةِ الأداءِ وبقي نبضُ قلبِ الفلاح يرعى الشجرَ واحدةً واحدة. لو علمنا ونحنُ نستمتع بمنظرِ وحلاوةِ فاكهةِ الصيفِ لقلنا في كُلِّ مرة نأكلُ فيها واحدةً: شكراً لكَ أيها الرب، شكراً لك أيها الفلاح.

حياةُ الشجرةِ مثلَ حياةِ الإنسانِ، تولد ضعيفةً وتحتاج ما يحتاجه الإنسانُ من عناصرَ لتعطيها إياهُ ثانيةً والماءَ والشمسَ والظلَّ والهواء. تمرضُ مثلَ الطفلِ الصغير وتشب مثلَ اليافعِ الفَتِي وتكبر وتموت عندما تشيخ. تؤدي الشجرةُ كُلَّ هذه الأدوار في الحياةِ وأكثر ولكنها تفعلها بصمتٍ سوى صوت حفيفِ الأوراق عندما يهب عليها النسيم. لا تقسو على الشجرةِ القريبة منها ولا تسرق منها قوتها ولا تمنع عنها الماءَ ولكنها تظلل عليها. أفعالٌ لا يفعلها إلا الإنسانُ النبيل!

يطوفُ الفلاحُ بشجرهِ كُلَّ صباحٍ ومساء، حجٌّ يتكرر في كُلِّ  أيامِ فصولِ السنةِ يعرف كُلَّ شجرةٍ باسمها ومتى زرعها وما أعطته فيما مضى من ثمرها ويقرأُ في فنجانها ما سوف تعطيه، يكلمها ويطربها بصوتهِ ويسألها عن حالها. يأخذُ كُلُّ الناسِ إجازةً من أعمالهم ويبقى الفلاحُ بجانبِ الشجرة ينتظر ماذا عليه أن يعطيها لتعطيهُ من ثمارها وظلالها وفي كُلِّ هذه الفصول يتقلب لونُ الفلاح وتنعم يداه وتخشن في رعايتها.

عرفنا الشجرةَ في خطيئةِ أبينا آدم وخروجهِ من الجنة واشتقنا إليها لتعلمنا الخطايا ولكن الفلاحَ أحبها وخطاياها التي تشدهُ إلى الأرض وتحبسه عندها ولا تخرجه منها. متى ما سقطت أوراقُ شجرةٍ في الخريفِ جمعها ودفنها مثل من يدفن أسرارَ تعبه في الأرض. أحبَّ جذوعها ومتى ما ماتت بكى عليها وأحرقها ليبعثها في غيرها ثانيةً إلى الحياة. لذةٌ تسحر الفلاحَ في تلكم الشجرة لا يعرفها إلا هو!

في لحظةِ اعترافٍ عندما كنتُ صغيراً وأبي يزرع النخل، أنا كنت أقرأ عن أشجارِ السروِ والزيزفون في قصصِ الرومانس والروايات. كبرتُ ولم تخشن يدي ولم يَرِقَّ قلبي مثل أبي ولم أحظ بزرعِ الزيزفون! في عالمنا العربي الملتهب لم يبق مكانٌ لأحلامِ صغيرٍ في شجرِ السروِ أو ظلالِ الزيزفون. جل أمنياتهم سقفٌ يظلهم.

صَاحِبْ الفلاحَ وتعرف أنَّ من قضى ساعاتٍ وأياماً يربي شجرةً أو طفلاً ربما اخشوشنت يداهُ ولكن لابد له من رقةِ القلبِ والعاطفة حتى تكبرَ الشجرةُ والطفلُ في أمان.

استعرتُ العنوانَ من ذاكرةِ صغري من روايةٍ عربها المنفلوطي ”ماجدولين“. قصةُ حُبِّ عذري تدور أحداثها في ألمانيا بين  شاب «استيفن» يتحدر من عائلة غنية وفتاةٍ قروية «مجدولين» على مقاعدَ حديقةِ المنزلِ تحت ظلِّ أشجارِ الزيزفون. بقيتْ في ذكرياتي وكلما قرأتها عدتُ صغيراً أبكي في رقةِ قلبِ أبي. اقرأها إنْ سنحت لك الفرصة، قصص الإنسانِ لا تتقادم...

مستشار أعلى هندسة بترول