آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 11:37 ص

من ذاكرتي - ليالي لويزيانا

قضيتُ الفترةَ بين شهر أغسطس 1986م وسبتمبر 1987م في العمل كخبراتٍ متبادلة وفترة تدريب بين شركة أرامكو السعودية وشركة شيفرون الأمريكية وكان مركز إقامتي وعملي في مدينة لافاييت، إحدى مدن ولاية لويزيانا ولافاييت تقع على بعد 220 كيلومتر تقريباً عن مدينة نيو أورلينز، عاصمة ولاية لويزيانا. وصلت تلك المدينة الصغيرة في يومٍ ماطر وخرجتُ منها في يومٍ ماطر إذْ تكادُ السماءُ تمطر فيها كل يومْ. استأجرتُ شقة على شارع روبلي وتعرفتُ إلى بعضِ الطلاب المبتعثين من شركة أرامكو للدراسة وبعض الطلاب العرب من دول أخرى.

كانت لافاييت صغيرةً وفيها سوقان متوسطا المساحة مما يجبرني على التبضعِ في أحدهما وكثيراً ما كان يفاجئني أحد زملاء العمل في اليوم التالي بأنه رآني في مكانٍ ما لقلة الأماكن التي كنت أقصدها. أكلتهم المشهورة ”قمبو“ وتعد باللحم او الروبيان وهي حساءٌ وأرز والحساء يبدو كأنه حفنةٌ من الطين من قاع نهر المسيسيبي. لكنة سكانها ثقيلة، كأنك وأنت تستمع إليهم تستمع إلى عربي من شمال افريقيا.

كان من ضمن المدة أن أعملَ مهندسِ حفر في خليج المكسيك حيث جدول العمل كان أسبوعاً في البحر ثم أسبوعَ إجازة وقد تطول الإجازة إن صادف مرور إعصارٍ وهذا ما يحصل كثيراً في تلك الولايات الأمريكية. مر خلال المدة هذه شهر رمضان المبارك وكان الإفطارُ متأخراً وكان الحذر واجباً مما يعد من وجباتٍ في مطبخِ منصة الحفر فاكتفيت بالفاكهة والحليب. كان العمال إما بيضُ البشرة أو سود وكنتُ العاملَ المشترك بينهما في اللون وصاحب المعتقد المختلف الذي لم يعرف الكثيرُ منهم عنه شيئاً. دارت بيننا أحاديث طويلة وحادة أحياناً عن الدينِ والسياسة وكان شريكي في الغرفة يتقدم لانتخابات مدينته ولا يحصل على سوى أصواتِ عائلته والقليل من الآخر ولكن ذلك لم يثنه عن ترشيح نفسه. لم يعجبه أنني لم أتحمس لبرنامجه الإنتخابي.

اتصل بي صديقٌ قادماً من مدينة هيوستن فأحببتُ أن أقدمَ له شيئاً مما يؤكل في شهرِ رمضان، اشتريتُ محلبية وقرأت التعليماتِ وبعد تسخين الماء أفرغتُ كاملَ العلبة مع شيءٍ من الحليب وحاولت تدوير الخليط ولكنه تحول إلى قطعةٍ صلبة في ثواني فأخفيتُ القدرَ واتصلتُ بصديقٍ آخر أسأله عن السبب فقال لي أن ملعقةً واحدةً كانت تكفي! لا عجب أن تحول الخليطُ لمادةٍ صلبة إذاً!

سمحت لي تلك المدة بزيارة مدينة نيو أورلينز عدة مرات وقضاء بعض الوقت في الحي الفرنسي الذي يتميز بهندسته المعمارية الذي اكتسبته من المستعمرين الفرنسيين والإسبان، ومهرجاناتها السنوية وموسيقى الجاز في منطقة ”الأضواء الحمراء“ والحاناتِ لمن أراد والمطاعم الشعبية في شارع بوربون ورسامي الصور والسحر الشعبي. حضرت احتفالات الماردي جرا التي تشمل ارتداء الأقنعة والأزياء، وقلب التقاليد الاجتماعية، والرقص، والمسابقات الرياضية، والمسيرات، ومشاهد تنحط في ممارساتها عن المألوف.

إجازة أسبوعين في الشهر كانت تعني لي السفر بالسيارة، حيث كنت أترك حقيبة السفر في السيارة في المطار بانتظار العطلة. كانت رحلتي تنطلق بعد الاقامة قليلاً في نيو اورلينز إلى ولاية ميسيسيبي ثم تنسى عن طريق منفس البلدة المشهورة التي دفن فيها المغني المشهور الفيس بريسلي ثم مروراً بمدينة سانت لويس بولاية ميزوري حيث كان يتواجد بعض الاصدقاء، بعدها إلى مدينة شيكاغو بولاية إلينوي ومن ثم حط الرحال في ولاية ويسكونسن حيث البحيرات الكبيرة الجميلة والجو المعتدل. كانت الرحلة، إن لم أتوقف، تصل إلى ثمانية عشر ساعة من السياقة المتواصلة وبسرعةٍ تفوق المسموح به قانوناً. شيءٌ من البطاطا المقلية والكوكاكولا يجعل الوقت يمر بسرعة كما أن برامج المذياع تكون مادة التسلية مثل برنامج بروس ويليامز، الذي كان يقدم نصائح لمن أراد انشاء عملٍ خاص به وكان يفتتح حصته بقول ”أهلاً بكم أصدقائي... أهلاً بكم في عالمي“.

كان الشعور الغالب وانا اعيش مع المجتمع الأمريكي بالوحدة والوحشة أحياناً ولكن ليس من المستحيل العيش والتعايش معه ولم أأسف على شيءٍ تلك الفترة سوى قدوم ابنتي الصغرى إلى الحياةِ ولم أكن موجوداً ألتقيها عند بوابةِ ميلادها. الشعب الأمريكي مشغولٌ بحب الراحة والتسلية ومن يهتم بما يجري في الخارج هم نخبةٌ حظيت بالتعليمِ والإنفتاح على العالم الآخر.

مستشار أعلى هندسة بترول