آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 2:48 ص

التقدم اختيار... ولكن

الدكتور توفيق السيف * صحيفة الشرق الأوسط

لو خير الإنسان بين التقدم والتخلف، فهو سيختار الأول دون شك، مهما كانت ثقافته أو انتماؤه الاجتماعي.

هذا ليس موضوعاً للمناقشة فيما أظن. فكل عاقل يعرف الفرق بين الاثنين ويعرف أيضاً أن التقدم قيمة وضرورة.

موضوع النقاش هو تكلفة الانتقال من الاختيار الأولي إلى الانحياز الحياتي. أي تحويل التقدم من فكرة إلى منهج في حياة الإنسان. هذا يشبه تماماً المقارنة بين الغنى والفقر، أو بين العلم والجهل. فمن سيختار الفقر إذا حصل على فرصة الغنى. ومن سيختار الجهل إذا حصل على فرصة العلم.

لكننا - مع ذلك - نجد أشخاصاً كثيرين، بل لعلهم الغالبية، يقفون أمام الفرصة فلا يرونها، أو يرونها فيخشون من دفع التكلفة الذهنية أو البدنية الضرورية لتحويلها إلى منهج حياتي. أظن أن القراء جميعاً قد اختبروا خياراً كهذا في أنفسهم، أو في الناس الذين من حولهم. كم من الناس من ترك الدراسة في منتصف الطريق، بعدما سئم منها أو تعب من حمل أثقالها. وكم من المستثمرين الصغار تخلوا عن استثمارهم في بداياته، بعدما اكتشفوا أن الطريق إلى الثروة ليست سهلة مثل الكلام عنها.

اختيار التقدم لا يختلف في حقيقته عن هذين المثلين. بل أستطيع القول إن التقدم ينصرف في بعض معانيه، إلى التقدم العلمي الذي يقود إلى الارتقاء الحياتي، كما ينصرف إلى الغنى المادي الذي يعزز حرية الفرد ومكانته. إن تراجع الناس عن ركوب هذه الطريق ليس سوى مثال، يجسد محصلة الجدل الداخلي بين إرادة التقدم في جهة، والخوف من مواجهة التحدي، في جهة أخرى. هذا الجدل يدور معظمه في داخل ذهن الإنسان.

دعنا ننتقل من مثال الفرد إلى مثال الجماعة. تبعاً لرأي المؤرخ أرنولد توينبي - وفق نقل المرحوم مالك بن نبي - فإن رد الفعل المتوقع من المجتمعات التي تتعرض لتحدٍ خارجي، يتبلور غالباً في واحد من ثلاثة مواقف: الاستسلام أو المقاومة الإيجابية أو الرفض المطلق. يعبر الموقف الأول عن مجتمع فارغ ثقافياً ومهزوم نفسياً. لا يتحرج من امتصاص ثقافة الغالب، ولو أدى إلى تفكيك ثقافته الخاصة. ويعبر الثالث عن ميل شديد للعزلة والانكماش على الذات. بينما يعبر الثاني عن ميل للتفاعل مع التحدي، والرغبة في اكتشاف عناصر قوته، ثم استثمارها في إطلاق أو تعزيز عناصر القوة المقابلة، في النظام الاجتماعي أو في الثقافة أو في أعضاء الجماعة أو مواردها المادية.

جدالات التقدم والتخلف في العالم الإسلامي، تدور مجملاً حول «الثمن» المطلوب لركوب القطار وتحريكه. والثمن الذي يدور حوله النقاش، ليس تكلفة مادية أو بدنية. بل هو ثمن ثقافي/ معنوي، يمكن تلخيصه في السؤال التالي: هل نحن كمسلمين مستعدون للإقرار بأن ثقافتنا وتاريخنا، حلقة في التاريخ العام للبشرية؟ أم نواصل الإصرار على أن ثقافتنا هي الخاتمة وأن تجربتنا التاريخية كتبت نهاية التاريخ؟

الخيار الأول يعني القبول بالتعامل مع تجربة البشر في نسختها الراهنة، أي النسخة الغربية، باعتبارها امتداداً ممكناً لتجربتنا التاريخية، وأن لها من القيمة مثل ما لتاريخنا. أما الثاني فيعني مواصلة التأكيد على إمكانية أن نعيش في عالم منقسم، على أمل أن تأتينا فرصة الاستعلاء يوماً ما.

أظن أن غالبية الشريحة النشطة في مجتمعاتنا تجادل نفسها في اختيار واحدة من هاتين الطريقين، وبالطبع الثمن المعنوي المترتب عليه.

باحث ومفكر عربي من المملكة العربية السعودية.