آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 10:36 م

مِن الإنجليزي «شارلي شابلن» إلى «كَيرلا» الهِنْدِيّة

ليالي الفرج *

من الخواطر التي تمرّ بي، أنّ ثمّة فرقاً شاسعاً بين الإنسان الغنيّ، وكلّنا فقراء لله تعالى، وبين شخص يحسب أنّه صاحب مال؛ فالأول قد يكون لديه مال مثل الآخر، وقد لا يكون من أصحاب المال، لكنّه في كلتا الحالتين هو من أصحاب النفوس الكبيرة، وإذا كانت النّفوسُ كِباراً، تَعِبَتْ في مُرَادِها الأجسامُ، على حدّ تعبير المتنبّي.

الفنّان الإنجليزي الشهير، وأشهر كوميدي في تاريخ السينما، شارلي شابلن، بكلّ محطّات عمره، التي امتدّت إلى 88 عاماً، وبمجموع نتاج هذه الشخصية الأسطورية التي يقرأها النقّاد ويعشقها الجمهور، وبتفاصيل رمزيته في واقع الحركة الفنية والسينمائية الحديثة، كان ابن عائلة فقيرة، يقول: ˮعندما كنتُصغيرا، ذهبتُ برفقة أبي، لمشاهدة عرض في السيرك. وقفنا في صفّ طويل لقطع التذاكر، وكان أمامنا عائلة مكونّة من ستّة أولاد والأم والأب، وكان الفقر بادياً عليهم؛ ملابسهم قديمة، لكنّها نظيفة، وكان الأولاد فرحين جدّاً، وهم يتحدثون عن السيرك. وبعد أن جاء دورهم، تقدّم الأب إلى شباك التذاكر، وسأل عن سعر البطاقة، فلمّا أخبره موظّف شباك التذاكر عن سعرها، تلعثم الأب، وأخذ يهمس لزوجته، وعلامات الإحراج تتقاسم ملامح وجه الرجل!.. رأيتُ أبي قد أخرج من جيبه عشرين جنيهاً، ورماها على الأرض، ثمّ انحنى والتقطها، ووضع يده على كتف الرجل، وقال له: لقد سقطت نقودك!.. نظر الرجل إلى أبي، وقال - والدموع تتسلّل من مآقيه -: شكراً يا سيّدي!.. وبعد أن دخلوا، سحبني أبي من يدي، وتراجعنا من مسار الاصطفاف؛ لأنّ أبي لم يكن يملك غير العشرين جنيهاً التي أعطاها للرجل!.. منذ ذلك اليوم، وأنا فخور بأبي، وكان ذلك الموقف أجمل عرض شاهدته في حياتي، بل أجمل بكثير من عرض السيرك الذي لم أشاهده! ‟

أمّا ما حدث، في نهاية شهر يوليو ومعظم شهر أغسطس الماضيين، في ولاية كيرلا الهندية، من أمطار ذات منسوب غير مسبوق، وفيضانات كارثية لم تمرّ بها الولاية منذ ما يعادل القرن؛ حيث استمرت تلك الأمطار مدةً تعادل شهراً، وضربت الأنواءمعظم مقاطعات الولاية بعنف وقوة؛ ما تسبب في غرق معظم الضواحي السكنية، إلى حدّ اعتبارها مناطق منكوبة ومحتاجةللمساعدات والإغاثات والإنقاذ. هذه الولاية التي تقع في الجنوب الغربي من الهند، يتحدّث أهلها لغة «مَالْيَالامْ»، اللغة التي تُعرفبصوتياتها ونبراتها ذات السمات التي يمكن تمييزها مع أن التقاط لكنتها بدقة ليس بالأمر اليسير لغير المتعودين على الاختلاط بالناطقين بها، وهي إحدى عائلة ما يعرف باللغات الدرافيدية، التي تتضمن نحو ثلاث وعشرين لغة، ويتحدث بلغاتها نحو 220 مليوناً، معظهم في جنوب الهند. «المَلْيَالِيزْ» هم أهل ولاية كيرلا، التي تصنّف على أنّها أكبر ولاية هندية في تصدير الموارد البشرية من عمّال وفنيين، ولا ينحصر ذلك بهذا البذلك إلى كبار الموظفين ورجال الأعمال، في معظم دول العالم. إن نسبة اغتراب أهل كيرلا في خارج الهند، يعدّ رقماً عالياً بالنسبة لباقي الولايات الهندية. في هذه الولاية التي يتم وصفها ضمن أدبيات الأنثروبولجيا الثقافية الهندية بأنها «الولاية المثقفة»؛ لتصاعد نسب المتعلمين فيها بوتيرة متسارعة، ضمن إستراتيجية تعنى بها حكومة الولاية، كما يؤكد ذلك أغلب «المَلْيَالِيزْ».

بعد هذه الكارثة، تبين لأهالي كيرلا أنّ الولاية بحاجة إلى إعادة تخطيط، واستحداث بنىً تحيتية تواكب التقدم الذي يخطوه «المَلْيَالِيزْ».

وتعاهد أهل كيرلا المَلْيَالِيزْ على أن يدفع كل واحد منهم دعماًيعادل راتب شهر لتفعيل خطّة واسعة تقوم بها حكومة الولاية لإحداث نقلة كبيرة على مستوى البنى التحتية في ولاية يبلغ طول المناطق الساحلية 580 كم على المحيط الهندي، ويجري فيها نحو 44 نهراً، وبدأت الخطوات الأولى بالدعوة للاستفادة من بلد متقدم في طريقتة لإدارة الأمطار الغزيرة والعواصف، وهي هولندا التي تعد من أكثر البلدان في العالم تطوراً في التعامل مع الفيضانات والأعاصير، ولديها تجارب واسعة في تأسيس القنوات المائية والسدود بشكل جماليّ ماتع، يمنع الخسائر، ويعطي مشاهد بانورامية ذات طبيعة جاذبة. في هولندا التي أخذت اسمالأراضي المنخفضة لطبيعة انخفاضها وتعرضها لموجات من الفيضانات والأحوال التي جعلت الطفل هناك يستطيع ليس السباحة فحسب، وإنما يستطيع السباحة باللباس والأحذيةأيضاً، من بين الخطط التي تأتي ضمن أدوات الاستعداد والمواجهة؛ تأسيساً لحالة وعي قادر على إدراك متطلبات التعايشوالموائمة مع الظروف المناخية الصعبة.

إنّ معالم الإنسانية التي يمكن استلهامها من «شارلي شابلن» هي نفسها التي حققتها روح الانتماء للأرض والإنسان في «كيرلا»، في ثقافة تتجلى في فضاءاتها قِيم العطاء والإيثار لا الأخذ والأنانية.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
هلال الوحيد
[ القطيف ]: 16 / 9 / 2018م - 7:40 ص
لطيف جدا المقارنة في النبل والعطاء الغير أناني.
كاتبة رأي في صحيفة الشرق السعودية
شاعرة ومهتمة بترجمة بعض النصوص الأدبية العالمية إلى العربية ، ولها عدَّة بحوث في المجال التربوي.