آخر تحديث: 20 / 4 / 2024م - 9:52 ص

طقوس عاشوراء في علم النفس الاجتماعي

علي محمد الحمد

يحيي المسلمون الشيعة في جميع أنحاء العالم يوم عاشوراء من كل عام باستخدام العديد من الأدوات الفنية والأدبية المختلفة كالموسيقى والشعر والتمثيل المسرحي والتصوير السينمائي وغيرها. أحد هذه المظاهر ذات الشعبية الكبيرة، بين الشباب خصوصاً، يتمثل في مواكب العزاء، وهي مسيرات أو حلقات يجتمع فيها المعزّون ويستخدمون أنواعاً مختلفة من أدوات الإيقاع كالطبول والصّنج والزنجيل واللطم على الصدور في أنساق إيقاعية مختلفة تتناغم معها أجسادهم وأنفاسهم وأصواتهم في حركات متكررة ومتناسقة تحت قيادة الرواديد «المنشدون» الذين يقودون هذه المواكب.

وبغض النظر عن موقف الآخرين تجاه هذه المواكب الطقسية بمظاهرها المختلفة، فإنه أصبح الآن من الممكن علمياً، فهم الطريقة التي تؤثر بها في نفوس روادها بالإضافة إلى الوظيفة التي تخدمها هذه الطقوس في حياة الجماعات التي تمارسها. فقد أظهرت ورقة علمية نشرها عالما النفس الأمريكيان جيمس كوان من جامعة ڤيرجينيا وديڤد سبارا من جامعة أريزونا بعنوان ”نظرية خط الأساس الإجتماعي“ Social Baseline Theory، أن الأفراد حين يكونون بصحبة أشخاص مألوفين Familiar فإن مقدار الجهد الذي تبذله أدمغتهم ومقدار استهلاكها للطاقة ينخفض، حيث تنخفض حالة الترقب والحذر والتوجس لديهم ويشعرون بالأمن والاطمئنان فيقومون بإيكال بعض المهام العقلية المكلِفة كالمراقبة وتقدير الخطر المستقبلي لأولئك الأشخاص «1». كما أنهم يصبحون أكثر قابلية للتعاون معهم حيث أن احتمال ردهم للجميل يكون أكبر سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وبذلك يتم التقليل من مشكلة استغلال الانتماء Free - rider problem الناتجة عن التعاون مع أشخاص غرباء والتي يمكن أن تصيب المجتمعات بالضعف والتفكك. ولكن ولأنه قد يكون من الصعب على الفرد أن يعرف كل أفراد المجتمع الذي يعيش فيه بشكل شخصي، فقد اعتمدت الجماعات البشرية الكبيرة منذ القدم، على وسائل متعددة لتمييز أفراد الجماعة، الذين يمكن الاطمئنان لهم والتعاون معهم، عن أفراد الجماعات الأخرى. هذه الوسائل تشمل الطقوس الدينية الجماعية والرقصات الفولكلورية والفنون الشعبية ورقصات الحرب، وغيرها من الأعمال الجماعية الجسدية التي تتضمن حركات عضلية إيقاعية متكررة ومتناسقة، تصاحبها إيقاعات موسيقية أو ترانيم صوتية متناغمة. وهذا ما يدعوه أستاذ علم النفس في جامعة ڤيكتوريا الدكتور بول ريدِش بالتناسق الحركي البيني Interpersonal Synchrony «2». تأثيرات هذا التناسق الحركي بين الأفراد، من قبيل زيادة الألفة وتشجيع التعاون فيما بينهم، تعتمد على آليات فطرية وليست مكتسبة فهي تظهر حتى لدى الأطفال في السنة الثانية من عمرهم أي قبل تأثرهم بثقافة مجتمعاتهم بحسب تجربة أجرتها الدكتورة لورا سيريلي من جامعة مكماستر «3». تلك التجربة أظهرت أن الأطفال بعمر 14 شهراً يكونون أكثر تعاوناً مع الأشخاص الغرباء عندما يرقصون معهم رقصات متناسقة مما لو رقصوا معهم رقصات غير متناسقة. وتشبه تلك التجربة، تجربة أخرى ذكرها أستاذ علم النفس في جامعة أريزونا روبرت سيالديني في كتابه قبل الإقناع: طريقة ثورية للتأثير والإقناع Pre - suasion: A Revolutionary way to influence and Persuade، وجدت هذه التجربة أن تناسق نقراتك على الطاولة مع نقرات أشخاص غرباء يجعلهم بشكل تلقائي أكثر قابلية لمساعدتك في بعض المهام المستقبلية «4».

ومن الملفت للنظر أن الناس يميلون دائماً لإظهار أنهم متعاونون وجديرون بالثقة. فهذا التناسق الحركي يحدث بشكل تلقائي بسيط دون أن نشعر، حتى في الجماعات المؤقتة. مثلاً، عندما ينتظم تصفيق الجمهور في مسرحية أو حفل بشكل لا إرادي. ولكن مظاهر التناسق الحركي تزداد تعقيداً بازدياد عمر الجماعة وزيادة تعقيد التراكيب الاجتماعية والثقافية فيها. إذ كما أن الجماعة التقليدية تستخدم الطقوس الجماعية والرقصات الشعبية من أجل تحديد المنتمين لها، فإن هذه الجماعة إذا كبرت وتوسعت وازداد عدد أفرادها نشأت فيها طقوس جديدة ورقصات جديدة لتمييز أفراد الجماعات الفرعية الناشئة بداخلها أو المنشقة عنها عن سواهم. أفراد هذه الجماعات يحمون طقوسهم ويحرصون على إشهارها وإظهارها لأنها هي التي ترسم حدود وجودهم وتعرّف أفراد الجماعة ببعضهم وتسمح لهم بالتعاون فيما بينهم وباحتكار موارد الجماعة لصالحهم ومنع تسرّبها لمنافسيهم. ولذلك أيضاً تحرص الجماعات على أن تكون هذه الطقوس على مستوى معين من الصعوبة. فهي سهلة إلى حد ما بحيث يمكن لأطفال الجماعة تعلمها بعد بذل مجهود في سبيل ذلك، ولكنها صعبة أيضاً بحيث لا يمكن تزويرها بسهولة والتظاهر كذباً بالانتماء للجماعة التي تمارسها. وهذا ما يسمى في علمي الأحياء والاقتصاد بنظرية الإشارات Signaling Theory «5». بحسب هذه النظرية، فإن الكائنات الحية، ومنهم البشر، يسعون دائماً لإظهار الخصال المرغوبة في الجماعة وذلك لزيادة حظوظهم في الحصول على شريك حتى لو كان ذلك بطريقة غير مباشرة. فعلى سبيل المثال، يُعتبر ذيل الطاووس مكلِفاً من الناحية المعيشية لذلك لا تستطيع الطواويس الضعيفة الحفاظ عليه وعلى حياتها في نفس الوقت. وبالتالي فهو يستخدم كإشارة غير مباشرة للقوة يصعب تزويرها من قبل الضعفاء.

تفسر نظرية الإشارات هذه أيضاً، إلى حد ما، التصاعد المستمر الذي نراه في حدة وعنف الطقوس العاشورائية سنة بعد أخرى، وابتكار طقوس جديدة كالزحف والتطبير والتطيين والمشي على الجمر وغيرها. فالطقوس العاشورائية تعمل في مدى واسع ومفتوح وغير محدد بمظاهر معينة. وهذا يسمح لبعض أفراد الجماعة أن يبالغوا في طقوسهم لأن هذا يشير إلى خصال مرغوبة في الجماعة وهي الحب والتفاني والإخلاص وقوة العقيدة. أيضاً، تفسر هذه النظرية إقبال الفئات الأقل حظاً من الناحية الإجتماعية، الشباب العاطل مثلاً، على ممارسة هذه الطقوس العنيفة. فهي تمكنهم من المنافسة للحصول على منافع ضمن الجماعة. وذلك بتحمل تكلفة جسدية ونفسية قد لا يرى صاحب المكانة الإجتماعية أنه بحاجة لتحملها.

ولكن، إذا كانت الطقوس العاشورائية تخدم وظائف مهمة في المجتمعات التقليدية فكيف نفسر بقاءها في المجتمعات الشيعية حتى تلك التي تعيش في الدول المتقدمة؟؟

لا شك أن الدولة الحديثة قامت بتغيير قوانين اللعبة قليلاً فأصبح الجزء الأكبر من المنفعة المعيشية، كالأمن والتعليم والعمل وغيرها، يأتي من الدولة. خصوصاً دول الرفاه الاجتماعي Welfare State. واستبدلت الكثير من محددات الانتماء بأخرى. فلم يعد الانتماء للدولة محدداً باللباس المشترك أو ممارسة الطقوس المشتركة أو الذاكرة الجمعية المشتركة بالضرورة وإنما أصبح الإنتماء مدوناً في وثائق الجنسية والأوراق الثبوتية. ولكن آليات الاجتماع التقليدية لا تزال مكتوبة في جيناتنا، ولا تزال تعمل بشكل فعال في أدمغتنا. ولذلك لا تلبث أن تنشأ جماعات جديدة، ضمن الدولة الحديثة، تمنح أعضاءها مزايا إجتماعية وتختار لهم طقوس انتماء خاصة وتحدد من يمكن لهم التعاون معه ومن لا يمكن لهم ذلك. وهذا ينطبق على الجماعات الناشئة حديثاً كالأخويات Fraternities والأحزاب Parties والفرق Cults كما ينطبق على الجماعات الدينية أو المذهبية القديمة. فكلها تتنافس فيما بينها من أجل تقوية الروابط بين أعضائها وتشجيع التعاون فيما بينهم وتوفير الحماية الاجتماعية والأمان والاطمئنان والوجوه المألوفة لهم، وتساعدهم بالتالي على العيش في البيئة بالغة التعقيد في ظل الدولة الحديثة.