آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 12:38 ص

كمالُ العقلِ في الجنون

المهندس هلال حسن الوحيد *

قيل لشخصٍ هل تستطيعَ أن تحصيَ المجانين فقالَ من الأسهلِ أن اعدَّ العقلاء لأنهم قلة. يكمن كمالُ العقلِ اللامحدود في السؤالِ بكيف ومتى وهل وأين وكل أدواتِ السؤال والقبول بربما في بعض الأجوبة.

اعطانا الربُّ عقلاً لا محدوداً في عالمٍ لا محدود فلا الدينُ يمنعَ السؤالَ ولا العقل يمنع السؤالَ في أخطرِ الأمورِ من الخالقِ للمخلوق. غايةُ الأمرِ أنَّ البشرَ قد يصلونَ إلى جوابٍ أو خلاصةٍ ليست صحيحةً أو صحيحة جزئياً أو لا يصلون إلى شيءٍ أبداً وهذا هو قمةُ الكمالِ في العقلِ والمعرفة عندما يصطدمُ العقلُ البشري بحائطِ الصَدِّ الذي سوفَ يظل يحاول القفزَ فوقهُ والنظرَ فيما خلفهُ حتى يظنَّ الناسُ أنه مجنون.

العاقلُ هو من يتكلم مع الجمادِ واللا عاقل، يخاطب الشجرَ والحجر ويجعل منها لوحاً يكتب فيه أفكارهُ ويمحوها. يتكلم معهم ويناقشهمْ ميقناً أن لهم قوةً عاقلةً لا يفهمها سواهُ في دقةِ تفاصيلِ الخلقِ وإبداعِ الخالق. المجنونُ ”العاقل“ هو الذي يتكلم مع المخلوقاتِ ويسألها كيف ترى وكيف تشم وكيف تهضم ويسألها كيف تفكر وتهتدي لمصلحتها! تلك المخلوقات التي تنتظم في جماعاتٍ أذكى من الكثيرِ من البشر، تعرفُ كيف تستخدم كل طاقتها وتجمع أفرادها ليعملوا بعيداً أن تطالهم أيدينا. هل رأيتَ نملةً تقتل نملاً أو تدفَّ الترابَ في جحورها ومساكنها؟ ولكن البشر يفعل هذا!

العقلاءُ في الدنيا مثل سفنٍ صغيرةٍ تجوبُ المحيطاتِ والبحار تبحث عن مرسى الكمالِ وفي إبحارها تصطدم بصخورِ أينَ ومتى وكيفَ وهل ولكنها في عزمِ الربِّ الذي ينيرُ لها الطريقَ نحو وجهتها تهتدي إليه. كُمَلاَءُ العقلِ هم في براءةِ وبياضِ عقلِ الصغيرِ الذي لا ينفك يسأل أبويهِ عن الأحداثِ وعن نفسهِ وعن الكونِ ولا يقتنع إلا أن يصدهُ الكبارُ عن الجوابِ أو يصلَ إليه كاملاً.

قف على شرفةِ بيتكَ هذا المساء في أوائلِ فصلِ الخريف وانظر القمرَ مكتملاً في السماءِ الصافية حاكماً على الظلامِ محتقراً كُلَّ أدواتِ فكرِ البشر، ماذا ترى؟ عندما يهدأ الليلُ اسأل نفسكَ من أنا ولما أنا هنا؟ إن اهتديتَ إلى الجوابِ فأنتَ من العقلاءِ وإن عركَ عيونكَ السهرُ بحثاً عن المرسى فأنت مجنونٌ في كمالِ العقل. كُلُّ بدائعِ الخالقِ في الكونِ تنادينا أن نبقى مشدودينَ نحو جنونِ التفكر في معرفتها وأن نصلَ إلى مرسى معرفتها حتى وإن حكمَ علينا العقلاءُ بالجنون.

العابدون مجانين في كمالِ العبادة ”يقال مرضى وما بالقومِ من مرضٍ… أو خولطوا خبلاً حاشاهمُ الخبلُ“، المفكرونَ مجانين في كمالِ الخلق والعاشقونَ مجانينَ في تمام العشق: يُحكي أن قيسَ بن الملوح ذهبَ إلى ورد زوج ليلى في يومٍ شاتٍ شديدِ البرودة وكان جالسًا مع كبارِ قومه حيث أوقدوا النارَ للتدفئة، فأنشدهُ قيسٌ قائلاً:

بربّك هل ضممتَ إليكَ ليلى

قُبيل الصبحِ أو قبلتَ فاها

وهل رفّت عليكَ قرونُ ليلى

رفيفَ الأقحوانةِ في نداها

كأن قرنفلاً وسحيقَ مِسكٍ

وصوبَ الغانياتِ شملنَ فاها

فقال له ورد: أما إذ حلّفتني فنعم.

فقبض قيسٌ بكلتا يديه على النارِ ولم يتركها حتى سقطَ مغشيًا عليه. هذا هو العشقُ وإلا فلا!

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
طاهرة آل سيف
27 / 9 / 2018م - 7:47 ص
كمال العقل في الجنون ، فعلاً ماكان نمو البشرية وتطورها إلا حين انفصلت تلك الشعرة الدقيقة التي ربطت العقل بالقواعد، حتى فكر بما هو أبعد من الآفاق ، ووصل إليه بجنونه ، حقيقةً للجنون حلاوة لا يستلذها إلا المبدعون العقلاء وإن شاط شيئاً عن المألوف .
كل الشكر مقال جميل وقلم مبدع .
مستشار أعلى هندسة بترول