آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:57 ص

غزة في الواجهة مرة أخرى

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

بات من الصعب على المرء تذكر عدد المرات التي شنّت فيها قوات الاحتلال الصهيوني، عدواناً على قطاع غزة؛ لكثرة تلك الاعتداءات. وإذا كانت الحروب واحدة من ميادين السياسة؛ فإن لكل عدوان من تلك الاعتداءات أهدافه، وفي حالة انعدام تلك الأهداف لا تكون هناك قيمة لها، وتتحول من أداة فعل سياسية إلى فعل عبثي، خاصة أن جميع تلك الاعتداءات انتهت بهدنة من غير تحقيق أهدافها المعلنة.

العدوان الأخير، جاء بعد أيام قليلة من إعلان هدنة بين الكيان الغاصب، وحركة حماس، بوساطة مصرية لم تصمد طويلاً، وتبعتها هدنة بوساطة مصرية أيضاً في هذه المرة. فهل هناك أهداف ثابتة لهذه الاعتداءات، وما هي الأهداف المتحركة، القابلة للتغيير.

لعل تفتيت الكفاح الفلسطيني، ووجود سلطتين فلسطينيتين، واحدة بالضفة الغربية، والأخرى في قطاع غزة؛ هو أحد ثوابت السياسة «الإسرائيلية». وأهمية ذلك، تكمن في خلق مناخ تتآكل فيه الحقوق الفلسطينية، وبشكل خاص عروبة القدس، وحق اللاجئين في العودة إلى ديارهم. فالسلطة في رام الله، التي اختارت طريق المفاوضات والتسوية السياسية، ووقّعت اتفاقية أوسلو عام 1993، باعتبارها تحتكر وحدانية التمثيل لتطلعات الشعب الفلسطيني في التحرير والعودة؛ تجد نفسها في وضع لا تحسد عليه.

فالتفاوض بين حماس وسلطة الاحتلال، لم يعد موضوعياً أو منطقياً، وكذا القول إن سلطة رام الله هي الممثل الشرعي لكل الفلسطينيين في الداخل والشتات. إن من شأن هذا التحول السياسي، في استراتيجية حماس، أن ينزع حق تمثيل الفلسطينيين لكلتا السلطتين، بما يعني أن مشروع التحرر الوطني الفلسطيني، بات من غير واجهة تدعي حق احتكار تمثيل الفلسطينيين. يضاف إلى ذلك أن كلا الفريقين، في رام الله وغزة، لم يمتلك بعد استراتيجية نضالية عملية، ليس فقط لرفض سياسة تهويد القدس، وإلغاء حق اللاجئين؛ بل أيضاً لصيانة هذه الحقوق، والحيلولة دون تمكين «إسرائيل»، من وضع أهدافها قيد التنفيذ.

الهدف الآخر للاعتداءات المتكررة على قطاع غزة، هو تكريس الوهم لدى بعض الفلسطينيين، الذين يرون أن هناك بعض النتائج الإيجابية لاتفاق أوسلو، وللتطبيع مع «إسرائيل». فعلى الرغم من الاجتياحات المتكررة لقوات الاحتلال، لمدن الضفة الغربية، لكن مستوى المواجهة بين الفلسطينيين و«الإسرائيليين» في الضفة، لم يصل في الغالب إلى حالة الحرب.

وهناك سعي حثيث لدمج اقتصاد الضفة الغربية في الاقتصاد «الإسرائيلي»، بما يستتبعه ذلك من فتح الأبواب مشرعة للقوى الطفيلية لممارسة بعض النشاطات، وأيضاً عدم وجود حصار اقتصادي قوي على الضفة، كالحصار المفروض على القطاع منذ سنوات طويلة.

فالفلسطينيون في الشتات، لم تعد لهم قيادة وطنية جامعة. وبانعدام وجود طليعة للكفاح الفلسطيني، تبرز فقاعات هنا وهناك، تحرض على تفتيت الحضور الوطني المنظم في المخيمات الفلسطينية، في سوريا ولبنان والأردن. وفي هذه الحالة تنشط الفئوية والانتماء للجماعة، بدلاً من الانتماء للمشروع الوطني.

وهذا التغير هو جزء من استراتيجية أوسع، تهدف إلى تفتيت الوطن العربي، وإقامة سلطات على أساس الانتماء للأديان والمذاهب والقبائل والعشائر والأعراق. وهم أمر أخذ مكانه في أرض السواد؛ إثر الاحتلال الأمريكي عام 2003، حيث أقيم نظام سياسي على أسس المحاصصة الطائفية والإثنية في العراق، وغيب الحضور التاريخي والقومي لهذا البلد العريق. حدث ذلك مرة أخرى في السودان، حين اقتُطع الجزء الجنوبي منه ليُقام عليه كيان تم الاعتراف دولياً بقانونيته، ليكون إسفيناً في خاصرة الأمن القومي العربي. ومنذ عام 2010، شهدت المنطقة العربية طوفان ما بات معروفاً ب «الربيع العربي»، حيث الهدف إضعاف الكيانات الوطنية إنْ تعذر تفتيتها.

وقد رأينا ذلك يتحقق في ليبيا التي لا تزال تعاني بقوة، تداعيات إعصار الخريف، وفي اليمن حيث يعيش هذا البلد الذي وصف بالسعيد، حروباً أهلية طاحنة، لا يبدو أن لها مخرجاً، في الوقت القريب. ومثل ذلك حدث في سوريا التي عاشت حرباً ضروساً، وكان شعار تفتيتها من الشعارات الفاقعة التي طرحت من قبل قوى الهيمنة الدولية.

لقد خدمت الاعتداءات الصهيونية المتكررة على غزة، تحقيق أهداف التخريب في الوطن العربي. لقد حرفت تلك الحروب الأنظار عما يجري من تخريب منظم في البلدان العربية، وجاء التكامل بين العجز العربي، عن تقديم أي دعم للفلسطينيين في غزة، وبين حرف الأنظار عما يجري في تلك البلدان، ليخدم الاستراتيجية «الإسرائيلية»، يضاف إلى كل ذلك سعي صهيوني حثيث مدعوم بموقف أمريكي، للمضي قدماً في تنفيذ مشروع الشرق الأوسط، لتكون «إسرائيل» حجر الرحى، ومركز الجذب في هذا المشروع، الذي يهدف إلى تغيير هوية هذه المنطقة، من انتماء عريق للأمة العربية إلى انتماء بديل، خاضع للمتطلبات الجيوسياسية الاستعمارية والصهيونية.

فشل جميع هذه المشاريع، وفشل الاعتداءات على قطاع غزة أيضاً، رهن بتصليب الموقفين العربي والفلسطيني، وتغليب ثقافة الانتماء للأمة، وتغليب الثوابت القومية، وتعزيز وحدة الكفاح الفلسطيني.