آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 2:16 م

لغة الضاد

طاهرة آل سيف

كان العرب الأوائل يعبرون بكلمة الرأس الواحد عن جسم كامل احتوى رأساً وعظاماً وأعضاء وأعصاب وخلايا وشرايين، ثم عبر ضليعي اللغة من العرب بالضاد عن ثمانية وعشرين حرفاً غنياً بالوقع السمعي واللفظي والمعنوي، عن بحرٍ زاخر متلاطم الموج في جمال التصاريف والمصادر، لم تعجزهم اقتصار البادية التي يعيشونها في القليل من بيوت الشعر ومرابط الإبل والماشية عن أن يتفكهوا بوضع مئات الأسماء للأسد وغيرها للداهية وغيرها للسيف والحية والناقة، ويضيق لساننا اليوم عن أسماء عربية لحاجاتنا التي تفوق حاجاتهم تنوعاً وتعدداً، فلا نعرف في المعمل الواحد اسما عربياً لأدواته إلا القليل من أمثال المطرقة والمنشار والمسمار والمبرد ولا في المزرعة سوى المحراث والعتلة والمجراف ليس على سبيل الحصر.

نعم لم يكن الفضل يعزى للإنسان العربي حين اخترعت وسائل الحياة الجديدة فجاءت من بلادها بأسماء لغة مخترعيها، ولم يكن طالبوا العلمَ قد درسوا علوم الإنسان الحديثة في بلاد العرب، وما أرى في ذلك مثلمة في طلب العلم بل ضرورة في الإحاطة بالنهضة التي لا تقوم الحياة إلا بها، ولكنه أمر بين أمران، حبذا لغة للعلم نساير بها وكب الزمن، ولغة الأم يناجز بها النشء الجديد في الشعر والأدب والفلسفة، يقوِّم بها لسانه، ويبري بها قلمه، أنا لا أعجب لشيء اليوم عجبي لما نسمعه من لقلقة الألسنة بأحرف عربية ومعانٍ أعجمية فلا هو بالفصيح فتسعد بفصاحته ولا هو بالأعجمي فتندهش بلكنته، إن كان ما يصح أن أسميه اليوم بالعجمنة على لسان أبناء العربية هي الثقافة الحديثة والمعرفة المتوازنة والأدب المتعارف بين الناس، فلا يبك شاعر ولا كاتب على أفول نجمه في سماء الأدب والكتابة لقصور فهم العامة عن مقاصده التي أرادها ومعانيه التي صاغها، فقد اختلطت الألسن ودرجت نحو البساطة والعامية السلسة الخالية من الجماليات والصور التخيلية فانقبضت عنه الناس ولم تحفل به، ثم ضاعت أحرف أصيلة عن معانٍ عميقة وماتت موتة لا نشور من بعدها حتى تعود اللغة إلى سابق عهدها.

ما قصدت في مأخذي هذا تطيراً ولا تشاؤم بمستقبل اللغة العربية ولكن يستفزني كثيراً رسالة إلكترونية قصيرة تحوي الكثير من الأخطاء الإملائية، ويستفزني أكثر تصفحاً لكتاب في أحد زوايا المكتبات للبيع محشو بالأخطاء القاعدية للغة فأرى كل خطأ كندبة محفورة على وجه الأمة العربية، وأطفال بتعابير ركيكة وألفاظ مكسورة على ظهر اللغة الأم، لعل الكثير يفتقد التعبير حتى عن مشاعره أو أرائه أو ما يعتلج بخواطر هـ فتغص حنجرته بالكلمات ويتحشرج لسانه حين الحديث حتى أنني لا أجد متحدثا طلقاً ولا متكلماً بليغاً إلا ما ندر فتدهش له أسماعي وتقع كلماته حتى آخر نقطة من خلاياي وكأنني قد تنفستُ أحرفاً مملؤة بالهواء أخيراً، يمكن لك أن تقتنع بما كنت تنبذه يوما أو تغير ذائقتك عما تنفر عنه، أو تتفكر فيما أوصدت عنه بابك يوماً، أو تتحول من طريقتك في الحياة إلى طريقة أخرى، وقد تحب ما تكره وتكره ما تحب، وما ذلك إلا سحر البيان، جاء به القرآن فرمى بفصاحة قريش في عمق الوادي.

كان لعرب الجاهلية مؤتمر لغوي يعقدونه في كل عام في الحجاز يجتمع فيه شعراؤهم وخطباؤهم يتحاورون ويعرضون أنفسهم على قضاة من النوابغ يحكمون لهم حكماً لا يرد ولا يعارض، وكان غرضهم أن يجتمعوا في كل عام ليجمعوا شتات اللغة بعدما أحسوا تفرقها بين الحجاز واليمن والشام ونجد وتهامة لصعوبة التواصل ونظروا في ذلك أن يتم جمعها وتوحيدها إلى لغة قريش التي كانت أفصحها نطقاً وأحسنها بياناً، وما أشبه الماضي باليوم حين أقيم يوماً يحفل فيه العرب بلغتهم ولسانهم، وما أحوجُ ألسنتنا في هذا اليوم للمراجعة والتمعن في محاسن اللغة، اقرأ قليلاً وتمتع بسحرها ومعانيها:

لا يُقال مائدة إلا إذا عليها طعام، وإلا فهي خوان، لا يُقال كأس إلا إذا فيها شراب وإلا فهي زجاجة، ولا يقال أريكة إلا إذا عليها حجلة وإلا فهي سرير، ولا يقال فرو إ لا إذا عليه صوف وإلا فهو جلد، ولا يقال كوز إلا إذا كان له عروة وإلا فهو كوب، ولا يقال رمح إلا إذا عليه سنان وإلا فهو قناة، ولا يقال خاتم إلا إذا فيه فص وإلا فهو فتخة، ولا يقال ثرى إلا إذا كان نديّ وإلا فهو تراب، ولا يقال للماء المالح أجاج إلا إذا كان مع ملوحته مراً، ولا يقال وقود إلا إذا اتقدت فيه النار وإلا فهو حطب، ولا يقال عويل إلا إذا كان معه رفع صوت وإلا فهو بكاء.

ومن جمال ما كتب سيد البلغاء أمير المؤمنين علي ما يقرأ أفقياً ورأسياً:

ألوم صديقي وهذا محال

صديقي أحبه كلام يقال

وهذا كلام بليغ الجمال

محال يقال الجمال خيال

وكم سيبتهج التاريخ لمعلمي اللغة العربية وما يقدموه للنشء من جمال ونبراس لألسنتهم وستنحني لهم قاماتهم الصغيرة بعد أ ن يكبروا ويقدروا حجم الهبة التي وهبوها لهم، وكم أفخر حين أطلب من طفلي أن يصحح لي بعض الكلمات في مواقع الهمزة المختلفة فيدرك الخطأ في موقعها بكل ثقة، وكم جميل خطه حين يكتب اسمه ويحسنه بالحركات والسكنات وما كان وراء ذلك إ لا أستاذ عظيم علمه ضرب من فنون اللغة والقواعد.

بالأمس ندهت ولدي وقلت له ناولني جهاز الحاكوم فاندهش وعلت ملامحه الضحكة، قال لي ما الذي تقصدينه يا أمي قلت له أقصد جهاز الريموت كونترول، إنه يوم اللغة العربية يا ولدي فلنتوج الأسماء بلسانها حبذا هذا اليوم.

خوان: ما يوضع عليه أدوات الطعام.

الحجلة: ساتر كالقبة من الثياب.

الفتخة: الحلقة من الذهب أو الفضة من غير فص.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
هلال الوحيد
[ القطيف ]: 22 / 12 / 2018م - 7:53 م
للأسف يا أستاذة طاهره أن من يعول عليهم في الحفاظ على اللغة يلحنون فيها في أبسط الأشياء على رؤوس الاشهاد. كيف إذا بغيرهم؟

شكر الله لك هذا الاهتمام والكتابة الجميلة ونتطلع للمزيد من نتاجكم الرائع.