آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 2:48 ص

هي ونساؤها الصغيرات

أفنان المهدي

هل من الممكن أن يتغير لون الغراب من الأسود إلى الأبيض؟!

هل من الممكن أن يكون الحليب أسودَ؟!

من المألوف والمتعارف أنه يستحيل وجود غراب أبيض، أو حليب أسود، لكن عندما يكون الصراع قائماً بين الحبر المعبّر عن الكتابة، والرضاعة المعبّرة عن الأمومة، يكون الحليب أسودَ!

هذا ما تدور عليه مذكرات الكاتبة التركية «أليف شفاق»  والمعنونة بالعنوان اللافت  «حليب أسود» ؛ الذي تسلط الضوء فيها على الصراع بين أصواتها الداخلية، التي صورتهم بست نساء صغيرات كأنملة الإصبع، بعضهن قد عرفتهن قبل تجربة الزواج والحبل، واللاتي - بنظري - يمثلن زاوية من زوايا أي نفس بشرية، وإن كانت تبرز في المرأة بشكل أكبر، نظراً لسكيولوجيتها، وسواء كانت عند المرأة أو الرجل، قلّ من يلتفت لذلك الصراع ويدركه!

هؤلاء النساء هن على التوالي:

1. الآنسة التشيخوفية الطموح التي تمثّل جانب الطموح والهدفية.

2. الآنسة المثقفة الساخرة، وهذه ممثلة في الجانب الفكري والعقلي.

3. الآنسة العملية القصيرة، تمثّل الجانب التنفيذي إن صح التوصيف.

4. السيدة الدرويشة؛ تمثّل النزعة الروحية أو الصوفية.

5. ماما الرز بالحليب، تمثل الجانب الأمومي والعاطفي.

6. بلو بيلي بوفاري، تمثّل الجانب الجسدي.

مذكرات الكاتبة الاسطنبولية تبدأ من علقتها وشغفها بالكتابة، وقرارها بعدم الزواج، والتحولات التي مرت بها عندما وقعت في حب «أيوب» النقيض لها، فهو الهادئ، وهي الفوضوية، هو المحب للاستقرار، وهي البدوية في الترحال، الذي قد أصبح زوجها فيما بعد في أغرب زواج، حيث تزوجا في برلين بدون علم أمها وهي وحيدتها، اختارت الزواج في دير لترتدي ثوب زفاف بلونها المحبب لها، الأسود!

أليف شفاق، كانت تعيش صراعاً بلا هوادة مع نسائها الأربع قبل تعرفها على أيوب وزواجها به، حتى ظهرت لها بلو بيلي بوفاري داعية لها الاهتمام بجسدها وإبراز أنوثتها لتخوض صراعاً أشرس مع هذه الأخيرة والأخريات الأربع اللاتي يسرن متعاكسات ولا يلتقين عند خط واحد، ويزداد الصراع توحشاً مع ظهور ماما الرز بالحليب المقموعة من قِبلهن، لتكون أليف ذاتاً متشظية، لا ترسو على شاطئ، ولا تستقر على مرسى أمان، لحين حملها وولادتها بطفلتها الأولى «شهرزاد زيلدا» وزيادة معاناتها بتجنيد أيوب عسكرياً، وتركها وحيدة مع أصواتها المتعددة واقتران «لورد بوتون» جني اكتئاب ما بعد الولادة بها، الذي بدوره سحق النساء الست الصغيرات ووضعهن تحت الإقامة الجبرية في صندوق مغلق، حتى يكون - زيادة الخير خيرين - بتعبيرنا، على وحيدة أمها أليف!

ثمانية أشهر، كانت تجربتها الوجودية مع الاكتئاب، لتخرج منه بسلام بعد مناورات ومعالجات وزيارات لمتخصصين، وتقرر بأن تودّع «بوتون» وتخرج نساءها من الصندوق لتعقد صفقة سلام معهن، مصغية لهن مستمعة لا متحدثة فقط، ولا مقدّمة واحدة على الأخرى!

لتكون نتيجة تلك الصفقة، إنجاب ابنها الثاني «أمير زاهر» وولادة روايتها المشهورة «قواعد العشق الأربعون» .

المذكرات وإن كانت خاصة بشفاق، إلا أن من يقرؤها يشعر وكأنه يقرأ نفسه في بعض تجلياتها، فثمة مشتركات بين نفس أليف وأنفسنا، يتضح ذلك، عند وضعنا على حافة الاختبارات في المنعطفات والقرارات المصيرية.

اللافت كذلك أسلوب الروائية المتمازج مع العلوم الأخرى، حيث إن للسياسة والتعابير السياسية حضوراً كبيراً في مذكراتها، حين تصويرها للصراع مع الآنسة التشيخوفية والآنسة المثقفة الساخرة كحكم أقلية، وعند محاولة إقناعهن لها بالتخلي عن مشروع الأمومة لصالح مشروع الكتابة وإعلان انقلابهن على ماما الرز بالحليب والسيدة الدرويشة، فوسمته بالانقلاب والحكم العسكري، وعند رجحان كفّ مشروع الأمومة لصالح ماما الرز بالحليب وطلبها أن تكون الآمرة الناهية، عنونت هذه المرحلة بالملكية لينتهي بالفاشية لصالح الجنّي «بوتون» وعند المصالحة مع نسائها أطلقت صوتها: حان وقت الديمقراطية!