آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 5:35 م

آخر الدرس.. أول اللعب

أثير السادة *

ما كان ينقصنا إلا جناحين نحلق بهما ساعة تنطلق الصافرة الأخيرة، معلنة وقت الانصراف بعد يوم دراسي طويل، لا نتأخر عن معانقة الباب ونحن نتسابق في الهروب من قدرنا اليومي، كنا نوارس صغيرة لا تعرف الجلوس طويلا على تلك الكراسي الضيقة، نستوحش الجدران وصرير الطباشير، وصوت المدرس الذي بحّ وهو يلقننا قواعد الدرس، مازلنا أطفالاً لن نفطم بعد من رغبات اللعب، والركض بين الأزقة، ومنادمة الأصدقاء في الحارة، دقائق معدودة وبعدها تصبح الفصول خالية إلا من أقلام منسية، أو ورق لم يحسن أحدهم الكتابة عليه…كأنها صافرة إنذار على وقع خطر وشيك.

لا شيء يعادل الخروج من باب الدرس إلى باب اللعب، الصغار الذين لم يعرف الكثرة منهم وسائط للانتقال إلى منازلهم آنذاك يتفيؤون ظلال ضحكاتهم وهم يعبرون سويا إلى عيون أمهاتهم، قد يرسمون خطوطا على الأرض ويلعبون في الأثناء، وقد يتوقفون عند بائع اللوز الذي أمضى سنواته في انتظارهم عند منعطف الطريق، كان اللوز يومها فاكهة الطفولة أيضاً، ومثله الكنار“النبق”، حيث يذخر الصغار ماتبقى من مصروف اليوم لهذه المصادفات الشهية، الأرض ساخنة، والشمس لا تعرف صديقا في ظهيرات القيظ، لكنها أرق على ضلوع الصغار من مكيفات الفصول التي ضيقت عليهم فسحة الركض واللعب والتجوال.

ترسم طرقات الطفولة حكايات في ذاكرة الصغار الذين رسموا بخطواتهم إلى المدارس لوحات من الأمل المستحيل، يعرفهم سراب الظهيرة وهم يمتلؤون بأشواق الماء في لحظات العطش، لا شجر يظلل الماشين ولا حتى رصيف يحرس أنفاسهم، هم سيارة الحي في أول الصباح وأول الظهيرة، مثقلة أيديهم بدفاتر الحصص الطويلة، يحفرون على الأرض مواعيدهم الدائمة قبل أن تمحوها الريح في انتهاء ساعات النهار، هم ماء المكان، وهم شجره، وهم صوره التي تحولت في فصول الحياة.

”علي البيت طوالي…حسنوه يدور خالي“، حتى الخروج من المدرسة له نشيد، ترقص عليه حقائب الصغار وهي ترتفع وتنخفض كالموجة في بحر الهاربين من أقفاصهم، بينما يتمايل الفتية في فرح النهايات المؤقتة، ثيابهم الفضفاضة ترتفع كالأشرعة في تماوجهم الدائم، بعدها يغيبون بين الأزقة، يتركون الأفق وحيدا، ويرحلون إلى مرافئ الراحة، عند سدرة الأمهات.