آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 11:37 ص

قشةٌ في العاصفة

المهندس هلال حسن الوحيد *

إن كنت تقرأ ما كتبتُ ورأيتَ أنك بطل الرواية فلا تعجب، حكاياتُ الناسِ تشبه بعضها وانا أرويها عنهم. لستَ غريباً ولستَ وحيداً عن ٱلامِ البشر أو بهجتهم، هي روايتي لك إذاً! هي روايةُ البشرِ كلهم التي لم تكن فقط في الخيالِ بل أيقظتها خشونةُ ووقاحة مآسي العالم الجديد.

تعارفا صغيرينِ وكانت الاحلام أنهاراً تفيض وتجري في الليالي والأيام دون أن تنقطع. ظنا أن كأسَ الحب مترعةٌ وأشرعة العشقِ لا تطويها البحارُ العاتية. أشهرٌ مرت مثل الثواني واقترنَا، ناولتهمَا الحياةُ كأسها المترع وسكرا منه. عدا أشهراً قبل أن يأتي الطفلُ الأول ثم الثاني وكلما جاءَ جديدٌ لهما استجد بهما الهوى. رباه! هل في الدنيا شيئاً أجملَ من أن تصب كل الترعِ في نهرٍ واحد، وأن يجتمع كل المصلونَ في معبدٍ واحد؟

صَغِيرَيْنِ نَرْعَى البَهْمَ يا لَيْتَ أنَّنَا
إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم

دون أن يعرفا من أين دخل القَدَرُ الدار، مرضت حبه، قليلاً قليلاً لكن ريعان الشبابِ قال لهما: سوف توقفانِ هبوبَ الريح وتغيرا مطلع الشمس، وأنى لبشرٍ مسكينٍ بائسٍ أن يتصرفَ في الكونِ كيف يشاء؟ عانت كُلَّ آلام البشر، في كل يومٍ تنقطع عن الدنيا ثم تعود وكأنها تأخذ دفعاتٍ تحتَ الحساب من الموتِ ويُفتح لها نافذةٌ تطل منها للقبر. أخذها لكل طبيبٍ ظن أن عنده الدواء ولكن كلما أخذت الدواءَ ازدادت شعلةُ المرض. في فجرِ ليلةٍ استيقظت وكأنها عادت لكاملِ قواها المنهكة، حدثته أحاديثَ الصبا وما عاشته من قبل، وقبل أن تغلق عينيها أخبرته بالأطيافِ والأشباحِ التي كانت تجول أمامَ عينيها تقول لها: تعالي أيتها المرأة، لا تخافي! ثم أغمضت عينيها. ماتَ حبه، ماتَ عقله، ماتَ قلبه، بل ماتَ كله.

رأيته بعدها زمناً لكنني رأيتُ شخصاً في اسمه وما بقي من صورته دون أن يكون هو! رأيته شخصاً أزرى به الدهرُ بعدها وأنا الذي كنت أظن أن الرجالَ أجلاف قساة لا يعرفونَ الحزنَ والبكاء. أخبرني كيف انتهى كل شيء، جميلةٌ كانت تنام بقربه، تأكل معه، عشراتُ السنين أنبتت في كل زاويةٍ في الدارِ مَلاكاً يناديه كلما غفا: أنا هنا يا حبي الأول ويا حبي الأزلي.

قلتُ يا صديقي هناك أمران أحلاهما مرُّ وفي كلاهما لن تستطيع أمطارُ الأيامِ أن تغسل رائحة ذكراها: لك أن تموتَ ومن يلوم المحب أن يموت وهو قمة وفاءِ العشاق كما قال أبو فراس الحمداني:

وَما كانَ للأحزَانِ، لَوْلاكِ، مَسلَكٌ
إلى القلبِ؛ لكنَّ الهوى للبلى جسرُ
وَتَهْلِكُ بَينَ الهَزْلِ والجِدّ مُهجَة ٌ
إذا مَا عَداها البَينُ عَذّبَها الهَجْرُ
فأيقنتُ أنْ لا عزَّ، بعدي، لعاشقٍ؛
وَأنُّ يَدِي مِمّا عَلِقْتُ بِهِ صِفْرُ

ولك أن تبصر ماذا لو نظرت إليك من حيث هي في جنتها دون ألم، ألن تقول لك: أحب أن أراكَ سعيداً، روحي تحررت من قيودِ الألم الثقيلة ولا أحب أن أراها على معصميك. الحب أن تحزن، الحب أن تكون وفياً، والحب أن تحيا لكي أحيا. تغيب شمسٌ ويطلع قمرٌ وبعدها تنكسر كل القيود، تجلد ولا تهلك من الأسى حتى يأتي اللقاءُ مرةً أخرى ونخلد فيهِ صغيرين لا نكبر... 

مستشار أعلى هندسة بترول