آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 1:33 ص

كثيرٌ يُعاف وقليلٌ يُستطاب

من أرادَ أن يعرفَ الذهبَ الخالص عليه أن يفتنه، النار يمكنها عزل المغشوش، ومن أراد أن يعرفَ زيفَ الدينارِ يأخذه للصيرفي الذي يعرف كل تفاصيل الدنانير. وكذلك يفعل من يريد اصدقاءَ ليقولَ: هم لي خالصونَ وقت العوز، يقذفونَ بي نحو القممِ ساعةَ ما تهبط عزيمتي وادي الضعف ويرتقونَ معي جبالَ العزائم. لا يضع الذهبُ والمعادنُ قناعاً يمنع من يختبرها من عزلِ الرديء من الجيد، لكننا البشر نرتدي أقنعةً لا حصر لها ولا يسهل على غيرنا نزعها دون شقاقٍ يتسع بحجمِ ونوعِ القناع.

في نوادرِ الزمانِ يحكى أن حاكماً طلبَ عشرةً من الرجالِ أن يُحملوا إليه ليعاقبهم في جرمٍ أجرموهْ. نظر إليهم طفيلي فقال: ما اجتمعَ هؤلاء إلا لصنيع فدخل في وسطهم، ومضى معهم، وهو لا يعلم بشأنهم، حتى صار بهم الموكلونَ إلى سفينة، فقال الرجل: نزهةٌ لا شك فيها، فدخل معهم في السفينة، فما كان بأسرعَ من أن جيءَ بالقيود، فقيد العشرةُ والرجل معهم، فقال الرجل: بلغ أمرُ تطفلي إلى القيود، ثم أقبلَ على الرجالِ فقال: من أنتم؟ قالوا: بل من أنت؟ قال: والله ما أدري غير أني طفيليٌ خرجتُ في هذا اليوم من منزلي فلقيتكمْ فرأيتُ منظراً جميلاً وعوارضَ حسنةً وبزةً ونعمة فقلت: شيوخٌ وكهولٌ وشبابٌ جُمعوا لوليمة، فدخلتُ في وسطكم، فجاء هذا الموكل بكم فقيدني معكم!

مظاهرُ الرجالِ والنساء والصبايا والصبيات لا تنبئ عن مقاصدهم وأينَ هم سائرون، وعندما لا تكون أزقة الحياةِ ضيقةً يمكننا كلنا عبورها والسير فيها دون قيود، ولا نعرف من اخترنا حتى تأتي أغلالُ الحياةِ وتقول لنا: هل هذا معكم؟ علينا أن نبتهجَ ونفرحَ سروراً أن تجمعنا الفرشُ والولائمُ والنزهاتُ وعلينا ألا نموتَ كمداً إذا فرقتنا الأيامُ والمحن. في الزينةِ أنواعٌ من الحلي يلبسها الناس ويعرفونها، لا يفترض أن تكون كلها غاليةَ الثمنِ وصافيةَ المعدن، فلكل عيدٍ لباس ولكل زقاقٍ في الحياةِ صديق، لا يجب أن يكون كل الأصدقاء خلصاء فلن يكونوا، ينقل عن الشافعي أنه قال:

جَزَى اللهُ الشَّدَائِدَ كُلَّ خَيْرٍ
وَإنْ كانت تُغصّصُنِي بِرِيقِي
وَمَا شُكْرِي لهَا حمْداً
وَلَكِن عرفتُ بها عدوي من صديقي

من ينصح في الأصدقاءِ يشبه ذاكَ الذي يقول: قُبيلَ غُروبِ الشَّمْس، أَو بعد العَصْرِ يكون وقت الطَّفَلُ، ولكن يبقى رأسُ الحكمةِ في حسن الاختيار وفي جمالِ الوفاءِ لمن اختارَ صحبتنا. نكون لهم الكؤوسَ التي يشربونَ منها والمرايا العاكسةَ التي ينظرونَ فيها وهي ترد جمالَ وصفاء ذاتهم لهم، وكما قال الامام علي بن أبي طالب :

وَلا خَيرَ في وِدِّ اِمرِئٍ مُتَلَّونٍ
إِذا الريحُ مالَت مالَ حَيثُ تَميلُ
جَوادٌ إِذا اِستَغنَيتَ عَن أَخذِ مالِهِ
وَعِندَ اِحتِمالِ الفَقرِ عَنكَ بَخيلُ
فَما أَكثَرَ الإِخوان حينَ تَعدّهُم
وَلَكِنَهُم في النائِباتِ قَليلُ

ليت الصداقات تكون كلها مثل جمالِ هذا اليوم، 29 من شهرِ كانون الثاني، تظهر الشمسُ قليلاً وتختفي، دافئةٌ دونَ حرارة، باردةٌ دون لسع البرد، قطراتٌ من المطر صارت تأتينا مثلَ الأحلامِ الجميلة العنيدة الشحيحة! لو بقيت كل أيام السنة هكذا ربما انتقلَ اعتدالُ الحرارةِ إلى ألواننا وأمزجتنَا. يومٌ نناديه عد يا شهرَ كانون من السنةِ المقبلة نحن بانتظارك...

مستشار أعلى هندسة بترول