آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 11:37 ص

بيضة القبان

المهندس هلال حسن الوحيد *

أطلَّ النهارُ في يومٍ ماطر من شهرِ شباط، وكم دعوتُ اللهَ أن يأتينا منه أكثر فمن يملك الماءَ ملكَ ربع قوى الطبيعةِ في العالم، إذ منذ القدم وحتى عصرنا الحديث، تمثل العناصرُ الأربعة الأرض، والماء، والهواء، والنار ركائزَ الطاقةِ والقوةَ المادية في العالم. رأيتُ المطرَ كل مرةٍ ينزل يغسل أوراقَ الشجر من العوالق، ولم أره يغسل قلوبَ وعقولَ أبناء ?دم ذاتَ مرة! بدت فيه اليوم مكونات الطبيعة طافحةً بالحركةِ كأنها تتغزل في حباتِ المطر: أينك منذ زمنٍ لم نراك، اشتاقت أرواحنا إليك؟

جددنا جدارَ بيتنا القديم في السبعيناتِ من القرنِ الماضي الذي لم يكن أطولَ من عشرينَ متراً حين بناه أحد البنائين، وبعدما انتهى منه كنت أقف في زاويةِ السور وألحظ شدةَ الاعوجاجِ والانحناء. مقاييس اعتدالِ الأمور دونَ بيضةِ قبان وموازين تسوية أحالت البَناَّءَ الى نظرِ الإنسان الخادع الذي يتحول ويتغير بينما تبقى طبيعةُ الكونِ ثابتةً في الجاذبيةِ وثقل الأجسامِ واتجاهاتها العمودية نحو الأرضِ التي أمكنت البشرَ من بناء نواطحَ سحبٍ دونَ أن تميل قيد أنملة.

اهتدى الإنسانُ منذ آلاف السنين لاختراعِ الموازين التي تعلمه ثقل الأجسام وتعامدها مع الأرض ومنها ميزان ”بيضة القبان“ وهي الكتلة التي تتوسط كفتي الميزان كي تتحكم بدقته. ويستخدم مصطلح بيضة القبان مجازاً للإشارةِ إلى الأمورِ الوسطية والمعتدلة والأمور التي تحفظ التوازنَ في مجتمعٍ أو أمرٍ ما.  بيضة القبّان هي النقطة الأبهى والأرقى بين المسافاتِ في الحكمةِ والإعتدال.

ليست بيضة القبان وموازين التسوية التي خُلقت مع الإنسانِ وتبقى معه وتموت معه سوى العقل الراجح الذي يزن الحالاتِ ويحرك المشاعرَ والقوى الجامحة والطامحة في البشر ليضعها في المكان الصحيح. وعلى النقيضِ من موازينِ التسويةِ وبيضات القبان التي يصيبها العطب مع كثرةِ الاستعمال فإن العقلَ يجلوه الاستعمالُ والتجربة والاحتكاك فوق أسطح الحياة. ولكن قيود المادة تدفعنا نحو جلب الميزان نحو الجهةِ التي نحن فيها لنأخذ ما استطعنا من وسق حنطةٍ أو ذراع قماش.

تنقل كتب الحديث ”أن اللهَ عز وجل لما خلق العقلَ قال له أقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر، فقال تعالى: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أكرم علي منك، بك أثيب وبك أعاقب، وبك آخذ وبك أعطي.“. ليس في البحث عن أصل القبان المادي الكثير من المنفعة دون أن يكون المجتمع الذي نعيش فيه فاعلاً في تكوين موازين عقلية، وأخلاقية تدفعه للإعتدالِ والإنصاف، ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الاْيَاتِ لِقَوْم يَشْكُرُونَ «الاعراف: 58».

نزل ماء المطر اليوم على أرض القلوب لترتوي منه وتنبتُ ورودَ المعرفة والإتزان ثم تنساب في انتظام حركة الحياة، وعندما لا يفعل المطر فعله فليس العيب فيه بل في البشر والإشكال إنّما هو في قابليّة القابل «أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا ? وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ ? كَذَ?لِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ? فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ? وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ? كَذَ?لِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ» «الرعد: 17».

مستشار أعلى هندسة بترول