آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 5:35 م

في أزمة النهضة العربية

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

المشاريع السياسية الكبرى، هي نتاج تطور تاريخي، يفرض مناهجه وأدواته، ويرسم معالم طريق المستقبل. بمعنى أن هذه المشاريع لا تأتي من فراغ، وإنما هي استجابة لمطالب اللحظة، وهي أيضاً نتاج حالة من التراكم، وحد أدنى معقول من الانسجام والوحدة بين عناصر وأدوات التحول المنشود. فهل حملت اليقظة العربية، بما هي مشروع للنهوض، هذه المواصفات؟!

ابتداء، يجدر التذكير، بأن مشروع اليقظة العربية، هو في أصله مشرقي النشأة، وعلى بقعة جغرافية محددة، لم تتعدّ مصر والعراق وبلاد الشام. وكان المشروع في الأساس، هو مشروع انبعاث ثقافي، وليس مشروع استقلال، وبناء دولة على أسس عصرية. وذلك أمر بديهي، في أمة حرمت من حقها في ممارسة ثقافتها، من قبل القوة الغازية.

وقد عبر هذا المشروع عن نفسه في انطلاق حركة ترجمة أدبية واسعة، شملت قضايا الأدب والسياسة والاقتصاد، والفلسفة. وفي نمو مطّرد وملحوظ للصحافة، وبشكل خاص في مصر ولبنان وسوريا والعراق. وكان اصطدام هذا المشروع بالمعوقات التي فرضها سلطان الاستبداد العثماني، قد دفع إلى تشكل جمعيات عربية سياسية، تراوحت مطالبها بين الضغط باتجاه الاعتراف بالحقوق الثقافية للعرب، إلى المطالبة بالاستقلال الذاتي، ولكن مع البقاء ضمن ممتلكات السلطنة، إلى المطالبة بالاستقلال التام عن السلطنة العثمانية.

وكانت شيخوخة السلطنة، وتكالب التنافس الدولي على ممتلكاتها، وعجز العرب، عن امتلاك عناصر القوة الكافية، لانتزاع الاستقلال، قد دفعت بنخبهم إلى الدخول في حلف، غير متكافئ مع الغرب الاستعماري، وتحديداً مع البريطانيين والفرنسيين؛ لتحقيق انعتاقهم من السيطرة العثمانية. ونتيجة هذا الحلف، غير المتكافئ، مع الغرب كانت كارثية بكل المقاييس.

اتفق المفكرون العرب، قبيل لحظة المغامرة بالتحالف مع الغرب، على السؤال عن أسباب تقدم الغرب وتخلف العرب، وانقسموا حول ثنائيات الأصالة والمعاصرة، والموروث والحداثة، والدين والعلمانية. وبالتالي حول شكل وطبيعة دولة ما بعد الاستقلال. لكن ذلك لم يتسبب في صدامات مباشرة بين النخب العربية المتصارعة، حول شكل وطبيعة سلطة المستقبل. إلا أن احتدام التنافس الدولي، حول مآلات ممتلكات السلطنة، قد دفع بالنخب الحداثية، إلى التحالف مع الغرب، اعتقاداً منهم أن ذلك سيحقق استقلال العرب من جهة، وسيؤدي إلى اختزال مرحلة الانتقال، نحو النظام الديمقراطي العلماني التقاعدي، والاستفادة من الخبرة العريقة للغرب في هذا المجال.

لكن طعنة اتفاقية سايكس - بيكو ووعد بلفور، قد أودت بالمشروع الحداثي، وقوّت من النخب الداعية للتمسك بالأصالة وبالموروث، على حساب المشروع المدني الحداثي. وكانت تلك فاتحة صراع مرير، استمر قرابة قرن من الزمان، ولا تزال تفاعلاته مستمرة حتى يومنا هذا.

هنا تحضر في الخاطر غياب النظرة التاريخية، عند تأسيس مشروع اليقظة العربية. فالعرب، لم يكونوا مستقلين، كما كان الغرب، الذي استمر عصر التنوير لديه قرابة ثلاثة عقود قبل قيام الثورتين الفرنسية والإنجليزية. لم تشهد الأمة العربية طويلاً، مرحلة التبشير الرومانسية بالتحولات المرتقبة، ولا أنتجت فكرها.

بمعنى أن مشروع اليقظة العربية، قد غاب عنه التراكم، الذي هو الشرط اللازم لنجاح أي مشروع، سياسي أو اقتصادي، أو غير ذلك. ومن جهة أخرى، غابت عنه فكرة الوحدة. فالمشروع الذي وقعه الشريف حسين مع المندوب السامي البريطاني في القاهرة، تضمن تنصيبه، ملكاً على جزء من المشرق العربي، في القارة الآسيوية. ولم يشمل المشروع مصر، التي كانت قد وقعت تحت سيطرة البريطانيين، قبل سقوط السلطنة قرابة ثلاثة عقود.

غياب تراكم الإرث السياسي، فوّت على النخب الحداثية العربية، في العراق وبلاد الشام، التنبه، إلى أن من يمارس القمع في مصر والجزائر والمغرب العربي، لن يكون البديل عن العثمانيين، وأن هذا الغرب الاستعماري، لا ينبغي أن يكون موضع ثقة من زعماء النهضة، مهما قدم من تعهدات ومواثيق. وقد ثبت لاحقاً وبالدليل، أن الاتفاقيات والتعهدات التي قطعتها الإدارة البريطانية، للشريف حسين وللنخب العربية، لم تساوِ في قيمتها الحبر المسكوب في صياغتها.

وحين بدأت مقارعة الاستعمار التقليدي، فإنها حدثت في ظل واقع متشظٍّ وصعب للغاية. لقد اكتشف العرب، أنهم قاتلوا العثمانيين على أرضية واحدة وسقف واحد، ولكنهم في مقارعتهم للغرب، افتقروا للأرضية والسقف الواحد. ولم تنطلق حركات مقارعتهم للاستعمار في حقبة واحدة، الشيء الذي غيّب عن العرب، استراتيجية الوحدة الكفاحية، وبالتالي خلق أشكالاً مختلفة من الكفاح، تركت بصماتها ثقيلة على شكل ومستقبل الأنظمة التي سادت عقب مرحلة الاستقلال.

تم تقديم ملايين الشهداء، في الأقطار العربية، على مذبح مقارعة الاستعمار الغربي، وانتزاع الاستقلال. ولم يخطر في البال، تأسيس دولة على مقاييس عصرية، فيما بعد الاستقلال، تضمن مشاركة الجميع، وبناء السلطة في البلدان العربية، على أسس تعاقدية.