آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 1:31 ص

ثياب العز

يومٌ جميلٌ ملأت فيه النوارسُ المسافرةُ من بعيدٍ شاطئَ البحر، وكأنها مع زخاتِ المطر أمنت مكرَ الإنسانِ الذي يمنعها من الاقترابِ من الأرض. أيمٌ وترحل، فليس لغريبٍ بأرضِ غيره مقام.

كانت في العربي فضائل لم تكن في غيره حتى وصلت حد الجنون. من الشهامةِ أن تكونَ كريماً، تعطي الناسَ فضل مالك، أو حتى كل ما تملك، لكن عندما تجود بفرسكَ أو سيفكَ أو داركَ فهذا فعلٌ تعتذر الأيامُ عن تكراره، مكارمُ كأنَّ الفرزدق يفاخر الزمنَ وليس جريراً في مساجلاته:

وَمِنّا الّذي قادَ الجِيادَ عَلى الوَجَا

لنَجْرَانَ حَتى صَبْحَتْها النّزَائِعُ

أُولَئِكَ آبَائي، فَجِئْني بمِثْلِهِمْ،

إذا جَمَعَتْنا يا جَرِيرُ المَجَامِعُ

فليت الفرزدق إذ ذاك خاطبَ الأيامَ وقال ”إذا جَمَعَتْنا يا دهورُ المَجَامِعُ“. هجراتُ الطيور الجميلة لا تصنع التاريخَ وإنما يصنعها البشرُ في سلوكياته، إذ أنه إما ينسج أكفانه أو يحيك له ثيابَ العز والفخار!

يذكر كتاب ”إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء“ أنه كان في حلب شخص يقال له طاهر بن محمد الهاشمي، مات أبوهُ وخلّف له مقدار مائة ألف دينار، فأنفقهَا على الشعراءِ والزوّار في سبيل الله، فقصده البحتري من العراق، فلما وصل إلى حلب قيل له: إنه قد قعد في بيته لديونٍ ركبته، فاغتمّ البحتري لذلك غمّاً شديداً وبعث المدحة إليه في بعض مواليه، فلما وصلته ووقف عليها بكى، ودعا بغلام له، وقال له: بع داري، فقال له: أتبيعَ دارك وتبقى على رؤوس الناس؟ فقال: لا بد من بيعها، فباعها بثلثمائة دينار، فأخذ صرّة وربط فيها مائة دينار، وأنفذهَا إلى البحتري، وكتب إليه معه رقعة، ضمّنها الأبيات التالية:

لو يكون الحباءُ حسب الذي أنت لدينا به محلّ وأهلُ

لحبيتُ اللجينَ والدرّ والياقوت حثواً وكان ذاك يقلُّ

والأديب الأريب يسمح بالعذرِ إذا قصرّ الصديقُ المقلُّ

فلما وصلت الرقعةُ إلى البحتري ردّ الدنانير، وكتب إليه:

بأبي أنت أنت للبرِّ أهلٌ

والمساعي بعد وسعيك قبل

والنوالُ القليلُ يكثر إن شاء

مرجّيك والكثير يقلُّ

غير أني رددت برّكَ إذ كان

رِباً منك، والربا لا يحلّ

وإذا ما جزيت شعراً بشعرٍ

قُضي الحقّ، والدنانير فضلُ

فلما عادت الدنانيرُ إليه حلّ الصرة، وضم خمسينَ ديناراً أخرى، وحلف أنه لا يردّها عليه، وسيّرها، فلما وصلت إلى البحتري أنشأ يقول:

شَكَرْتُكَ إن الشكر للعبدِ نعمة

ومن يشكر المعروف فاللهُ زائده

لكل زمانٍ واحدٌ يُقتدى بهِ

وهذا زمانٌ أنت لا شكَّ واحده

كتب التاريخُ الكثيرَ عمن ماتوا وإن فيه فيه من الزور والتزوير، فماذا ترى يكتب التاريخ الآن عن أمتنا في الشيم والهمم، سنواتٌ ضوئية من المآثر أم نار من مات لا يبقى بعدها سوى رماد الأحياء؟ في علم الاستقراء الخارجي، الذي هو عملية استنباط واستخراج نقاط بيانية أخرى خارج مجال المجموعة المتقطعة من النقاط البيانية، تحتاج الحضارات أن تكون لها نقاطٌ موجبةٌ وخارجة عن سياقِ النقاط المتسقة، وإلا لم يبق لها إلا الغنجَ والدلال بالماضي البعيد:
جادكَ الغيثُ إِذا الغيثُ همى
يا زمانَ الوصل بالأَندلسِ
لم يكن وصْلُك إِلاّ حُلُمًاً
في الكرى أَو خُلسة المختَلِسِ
"لسان الدين ابن الخطيب"

مستشار أعلى هندسة بترول