آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:00 م

عندما انقضى شهر شباط

شحيحةٌ هي الذكرياتُ التي في قدرتها أن تشدنا نحوها عشراتِ السنين، لا نبحث عنها لكنها تفترع مخابئ ذاكرتنا متى ما تشاء! كاد شهرُ شباط أن ينقضيَ وتنقضي معه ايامُ البرد، وتراودني أجزاءٌ من ذكرياتِ نهاياتِ ما كان في شهرِ شباط بين الستيناتِ والسبعيناتِ من القرنِ الماضي حين كنت صغيراً أتبع أثرَ خطواتِ والدي وأصدقائه بين النخيل، تارةً يعتنون بنخلةٍ وكأنها عروسٌ تزف لبعلها وتارةً أحاديث لا تعنيني في شيء. ساعاتٌ كنت إما أقضيها مرغماً دون رضا، أو أرغب فيها دون اللعبِ مع الأقران.

تذكرته عندما كنت في صفوفِ الدراسة وطلب منا الأستاذُ أن نكتب عما نشاء. لم أكتب عن والدي لأنه كان حياً حينها، ولكن شاباَ من الشامِ اختارَ أن يكتبَ عن والده. لم يحضر الطالبُ الصف بعد ذلك، ولكن القطعةَ كانت موسيقى من الذكرياتِ والوصفِ لعين والده، ولونه، وقامته، في لوحةٍ كاملةِ الجمال. قرأها الاستاذُ الأمريكي كل يومٍ وكان كل مرةٍ يقرأها يسأل عن الطالبِ الذي كتبها حتى نصفق له، لكننا لم نراه!! ترى هل غاب حتى لا يكتب شيئاً أروعَ وأجملَ مما كتبَ في والده؟ وهل ترى أن الأستاذ الذي كان في منتصفِ الستيناتِ من عمرهِ اشتاق لوالدهِ في جفافِ عاطفة الغرب؟

لو كتبتُ حينها لن أكتب عن عين والدي، أو لونه، أو قامته، فليس هو ما اختار من خصائص، ولكنني سوف أكتب عنه وعن رفقائه في نهاياتِ شهرِ شباط وبداياتِ آذار بين النخيل وسوف أكتب عن المرةِ الأولى والأخيرة التي ارتقى فيها الحائطَ ليؤذنَ في رحلةِ حجِّ أمي، آهُ كم أبكانا صوتهُ من الفرح!

لم يكن في القديمِ آلات تصوير توثق كل شيء ولم يبقى دونها في الذاكرةِ سوى ما حفرت الأيامُ في أنانيتهَا. ويبقى الأبُ هو من نمشي معه أقل، من نتصل به أقل، ومن نسأله ونغرف من معينِ معارفه في الحياة أقل، وعندما لا نراه ليس لدينا سوى صفحةً أو دونها من الذكرياتِ نكتبها عنه! أكاد أجزم أن طبيعةَ الأمورِ لم تزل كما هي حتى مع حضور آلات التوثيق ورخص التواصل، يبقى الآباء على حافةِ الذكريات وكأن الأجيالَ لم تتغير منذ كان على الأرضِ أبٌ وابن، كثيرٌ من صراعاتِ الجفاءِ والبعد وشيء من بهجةِ وجزاءِ الإنجاز.

ابتهج وافرح إن كان عندك أب، وانقش في ذاكرتك صفحاتٍ جميلة من الذكريات، فأنك إن كتبتَ شيئاً كتبَ عنك ابنائك أشياءً، وإن لم تكتب شيئاً فمن المؤكد أن أبنائك لن يكتبونَ عنك شيئاً.

لو كان البشرُ شجراً لكان الأبناء أعوادها والأبُ اللحاء الذي يمدها بالغذاء، ويحميها من بردِ الشتاء ولهب القيظ، فهل رأيتَ عوداً يبقى دون لحاء!

إذا ما رأسُ أهلِ البيتِ ولى
بَدا لهمُ مِنَ الناسِ الجَفاءُ
يَعِيش المَرْءُ ما استحيَى بِخَيرٍ
ويبقى العودُ ما بقيَ اللحاءُ
  "أبو تمام"

مستشار أعلى هندسة بترول