آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 1:33 ص

كُلْ يا كُمِّي قبلَ فمي!

يولد البشر في العالم كله ومعهم كتلةٌ من المخ تزيد قليلاً أو تنقص ولكن ما تراه وتصنعه في حياتها من تجاربٍ وتكسبه من معارفٍ هو ما يزيد في وزنها ويفرق بين العقل الغريزي المشترك بين العقلاء والعقل التجريبي الذي نكتسبه وتحصل زيادته بكثرة التجاربِ والاستعمال.

ليس لنا القدرة على الحصولِ على وزنٍ أكبر من المخ أو العقل ساعةَ الميلاد، ولكن لنا القدرة على تنميةِ عقلنا التجريبي وتنميته في مداركِ ومعارف الحياة، عملية يساعدنا فيها العائلةُ والمجتمع والبيئة وربما العالم بكليته الذي نحن فيه، بعدها يصبح العقل الفردي ساقيةً من سواقي نهر العقل الجمعي، ربما فاضت وأعطت النهرَ قليلاً وربما فاضَ النهرُ وسقاها.

يفرح الجهل عندما يُجَل بالرياشِ الذي يتدثر به ويتألم العقلُ عندما يستصغره من لا يعرفه، وكما أن العقلَ يحتاج أماً تحضنه وتهدهده، فكذلك الجهل يكفيه أن ينمَ في غيابِ حواضن العقل. روي أن شيخاً عارفاً دُعي إلى وليمةٍ في دارِ أحدِ الأعيان الأثرياء، فلما وصل الدارَ منعه الحراسُ من الدخولِ لمظهرهِ المتواضع ظناً منهم أنه متسول، فخرج إلى دارهِ وأحسن لبسه وعاد ففتحت له الأبواب، وأحسنوا ضيافته، فلما حضر الطعامُ مدَّ الشيخُ طرفَ قميصهِ من اليدِ وصاحَ بأعلى صوته «كل يا كمي قبل فمي». لم تكن صرخة الشيخ دعوةً للرثاثةِ ولكنها كانت صرخةَ ألمٍ من احتقارِ عقله.

كان في القديم الكثير من جهد العالم يحصل برعايته دون أن يوجد من يفتح له أبواب المعاهدِ والمدارس ومراكز البحث، أما وقد تعقدت بيئةُ العلمِ والعلماء، فلابد من حواضنَ تقول للمبدع: مرحى بك، تعالَ نحن نعينك! ويحتاج رسماً للمستقبلِ المنظور وما بعد المنظور، والمادة وكلها بوتقة ينصهر فيها الجهدُ ليستخلصَ منها العلمُ والإبداع والمبدعين.

وإذا بقيت البيئة خشنةً على المبدعين شبَّ وكبر فيها الحمقى. حكي أن احمقينِ اصطحبا في طريقٍ فقال أحدهما للآخر: تعال نتمنا على الله فإن الطريقَ تُقطع بالحديث فقال أحدهما: أنا أتمنى قطائعَ غنمٍ أنتفع بلبنها ولحمها وصوفها وقال الآخر: أنا أتمنى قطائع ذئابٍ أرسلها على غنمك حتى لا تتركَ منها شيئاً قال ويحكَ أهذا من حق الصحبةِ وحرمةِ العشرة فتصايحَا وتخاصمَا واشتدت الخصومةُ بينهما حتى تماسكا بالأطواقِ ثم تراضيا من أنَّ أول من يطلع عليهما يكون حكماً بينهما فطلع عليهما شيخٌ بحمار عليه زقانِ من عسل فحدثاه بحديثهما فنزل بالزقين وفتحهما حتى سال العسلُ على التراب قال صب الله دمي مثل هذا العسل إن لم تكونا أحمقين

يكفي أن يكون هناكَ جاهلاً واحداً ينظر الناس إليه ويعجبون بما يلبس ويعتمر ليكون أباً لكثيرٍ من الجهلةِ يسيلونَ كثيراً من العسل والدم، حكمةٌ كانت تختصرها أمي في مثلها عندما تقول: ألف عمار ما يقدر على خراب، وكانت تعني أن  الهدمَ أسهل كثيراً من البناء. وكما أن الطوب يهدم فالعقل يهدم أيضاً!

المداخل والطرق الصادقة للعلمِ ليست فيما نعتمر ونلبس، لكنها فيما نكتسب من معارف نرتفع بها عن مصافِ الحمقى والجهلاء وإن شح الناسُ بالشكر، معارف بها نبني ونعمر وكأننا نقول: شكراً لك يارب على ما أعطيتنا من مادةِ خامِ العقول ولم تنقصنا...

مستشار أعلى هندسة بترول