آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 5:41 م

مت فارغاً

ليلى البناي

لن نعيش في الحياة مرتين، هذه هي الحقيقة التي لا يختلف عليها اثنان، فكل لحظة تمر على الإنسان تودعه دون عودة، وهو يتوق لاستثمارها عبر عامل الزمن الذي يمر على عجل ليرسي النجاحات والإنجازات والتطلعات العلمية والعملية التي ولدت من رحم الصعاب والتحديات والعقبات

على شاهد من العطاء الإنساني إلى من وراءه من الأجيال.

إن رغبة الإنسان في البقاء وتخليد ذكراه فطرة فيه، فنراه يبتكر طرقا متعددة لتخليد حضاراته منذ آلاف السنين، وهذا ما تؤكده الحضارت القديمة كالحضارة الفرعونية والساسانية والآشورية، فقد قررت هذه الحضارات أن تموت فارغة من العلوم لتهديها إلى البشرية من ورائها بكل اعتزاز وفخر، وهذا ما تؤكده الآثار من الرسومات والنقوش التي توصل لها علماء الآثار.

لقد أدركت عقولهم أن النقش على الحجارة هو السبيل الأمثل لتفريغ أفضل ماتوصلوا إليه من علوم ولكي تبقى آثارهم خالدة وذلك لما امتازت به الحجارة عن سواها مثل القماش أو الجلود التي تتأثر وتبلى بعامل الزمن.

إن هذا الاعتقاد هو نفسه الذي تبناه الكاتب الامريكي تود هنري في كتابه «مت فارغاً» والذي استوحاه من موقف عاصره عندما كان يحضر اجتماعا فسأل المدير: ما أغنى مناطق العالم؟ فأجاب أحدهم بأنها بلاد النفط، وقال آخر بلاد الألماس.

ولكن المدير قال: إنها المقابر؛ لأنها تضم الملايين من البشر الذين رحلوا دون تحرير أفكارهم ومشاريعهم.

هذه العبار ألهمت الكاتب ليكتب كتاب تحفيزي يحث فيه البشر على استغلال مواطن العطاء في نفوسهم وبذل مافي وسعهم قبل أن يرحلوا بها وتبقى حبيسة قبورهم.

ولأن الإسلام هو دين الشمولية فقد سبق الكاتب بمئات السنين في الحث على ليحث على اغتنام الفرص ويحدد بعض المواطن القابلة للاستثمار في نفس كل واحد منا فقال الرسول الاكرم ﷺ * ”اغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناءك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك“

إن هذه الرواية صريحة في تحديد مايمكن أن تفعله لتفرغ كل مافيك من طاقات ايجايبة في جميع نواحي حياتك فقد فصلت بشكل مختصر مجالات المشاركة الفاعلة وهي الشباب مرحلة الانطلاق وابتكار المشاريع والجرأة في تتفيذها، وتسخير أيام الصحة في العمل النافع، ولأن اي مشروع هو بحاجة لانفاق ولان حقيقة اكتساب المال متقلبة بين وجود وعدم وبطبيعة الإنسان يمسك في وقت شح المال نجد الرسول يخص ايام الغنى والوفرة دون ايام الفقر.

ولأن الحياة هي دار العمل الذي استطاع كثيرون أن يعيشوا من خلالها اعمارا افتراضية عبر افراغ مافيهم من علوم واعمال خلدت ذكراهم يحث الحبيب محمد صل الله عليه وآله وسلم على استغلال الحياة قبل موافاة الأجل.

وفي رواية أخرى يقول الرسول الأعظم عليه أفضل الصلاة والسلام: ”إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث علم نافع ينتفع به ولد صالح يدعو له أو صدقة جارية“ ولو أمعنا التفكير في هذه الأمور الثلاث لوجدناه لا تستقيم إلا من خلال الإفراغ التام بأجمل صوره وأكملها وذلك لشتراط الأثر حيث قال: ”ابن صالح“ وهذا الصلاح لا يمكن أن يوجد إلا إذا أفرغ الأب أفضل أساليب التربية وأحسنها في ابنه.

وقال: ”علم نافع“ فشترط العلم منفعته وكأنه يقول أن ليس كل علم نافع "أو صدقة جارية وهي تتجلى في إفراغ المال لوجه الله.

إننا إذا رغبنا أن تكون لنا أعماراً افتراضية تخلد ذكرانا بعد الرحيل فلابد من البحث عن مواطن الثراء في دواخلنا والسعي لاستثمارها لننفع بها أولادنا ومجتمعنا والبشرية حتى نرحل ونحن في حالة فراغ من كل الأفكار بعد أن نهبها للآخرين بكل حب واعتزاز، لتكتمل مسيرة الكون نحو التكامل ونصل إلى الحقيقة القرآنية القائلة ”ليتخذ بعضهم سخريا“.