آخر تحديث: 23 / 4 / 2024م - 9:08 ص

«الثورات الزرقاء».. بين الحرية وضياع الأوطان

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

في أواخر عام 2010 شهدت تونس تظاهرات صاخبة، عمت المدن التونسية إثر قيام محمد البوعزيري بحرق نفسه، في 17 ديسمبر/كانون الأول، في مدينة سيدي بوزيد، احتجاجاً على مصادرة البلدية لعربة كان يبيع عليها الخضروات والفواكه، لكسب رزقه.

وكان هذا الحدث هو عود الثقاب الذي أشعل ما بات يُعرف ب «الربيع العربي»، الذي شهده عدد من الأقطار العربية، حيث امتد الحدث لاحقاً ليشمل ليبيا ومصر وسوريا واليمن، بشكل شامل وعدد آخر من بلدان العرب.

نجحت الحركة الاحتجاجية بشكل سلمي في تونس ومصر، ولكنها تحولت إلى حروب أهلية في ليبيا وسوريا واليمن، تدخلت فيها قوى الإرهاب، وأسهمت قوى دولية وإقليمية في تأجيج الصراع والاقتتال في تلك البلدان. ولا تزال المنطقة بأسرها تعاني تبعات تلك الأحداث، حيث انتشار الكراهية والصراعات الطائفية، وانتشار الجوع، وعودة الأمية بشكل غير مسبوق في بلدان يفترض فيها، أنها تجاوزت تلك الحقبة منذ زمن طويل.

وفي هذه الأيام تشهد منطقتنا فصلاً جديداً آخر من التحركات في دول عربية محورية، كما هو الحال في الجزائر بلد المليون شهيد، وفي السودان. وهناك بلدان عربية أخرى، فلبنان على سبيل المثال، يشهد في هذه الأيام تحركاً غير مسبوق ضد الفساد ونهب المال العام، ولن يكون بعيداً من أن يتطور ذلك إلى حراك شعبي شامل تشهده بلاد الأرز، في ظل مناخات وانقسامات اجتماعية وسياسية حادة وواضحة، ومعروفة للجميع ليس هنا مجال تناولها بالتفصيل والتحليل.

ولا تختلف الحركات الاحتجاجية الجديدة في مطالبها وأسبابها عن المطالب والأسباب التي رفعتها الحركات الاحتجاجية في مطلع هذا العقد، فجميعها تعبِّر عن أزمة حقيقية، يعانيها الوطن العربي.

وكما في أحداث ما عُرف ب «الربيع العربي» اعتبرت القوى الخارجية التي تُضمر الشر للأمة، ما جرى فرصة سانحة لتفتيت المنطقة وإضعافها فإنه من غير المستبعد أن تستثمر تلك القوى، ما يجري هذه الأيام، لوضع أجنداتها القديمة والجديدة، قيد التنفيذ.

بالتأكيد لكل بلد عربي خصوصيته، هذه الخصوصية ستعكس ذاتها على شكل البدايات والشعارات، والمطالب المطروحة من قبل المحتجين، ولكنها في جوهرها، تعكس العجز العربي الشامل عن الولوج القوي إلى العصر الكوني الذي نعيشه.

لا نهدف في هذا الحديث، إلى التقليل من الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها البلدان العربية على السواء، ولكنه تحذير للقيادات والنخب السياسية والاجتماعية، من أن تبعات استمرار الأزمة، وعدم القدرة على التوصل إلى حلول مقبولة، ربما يغيّر من طبيعة الحراك السلمي، ويتحول كما شهدناه في السابق، إلى حروب أهلية لا تبقي ولا تذر. فتكون النتيجة ضياع الأوطان.

لا نجادل في حق الناس في الحرية والتنمية، ومقابلة الاستحقاقات الأساسية للعيش الكريم، فجميعها مطالب إنسانية كفلتها الشرائع والقوانين الوضعية، ولكن التحذير ولفت النظر جراء تدحرج الأحداث إلى ما لا تحمد عقباه، واجب أخلاقي قومي وإنساني.

لقد صدرت تقارير من وزارة الخارجية الأمريكية، ومن جهات استخباراتية غربية، تشير إلى بروز مرحلة جديدة تستكمل ما بدأه «الربيع العربي»، في مطالع هذا العقد.

ومثل هذه التقارير ليست رجماً بالغيب؛ بل تقف وراءها أجهزة ومؤسسات ضخمة لا تكتفي بالقراءة والتحليل؛ بل تستعد بقوة، للتدخل في الأحداث وتوجيهها بما يخدم مصالحها وأجنداتها السياسية. والحديث عن مخططات لتقسيم الوطن العربي، وبروز خرائط للشكل والحدود الجديدة، للأقطار العربية، مطروح ومعلن وليس محل سجال أو جدال.

والكيان الصهيوني الغاصب هو الآخر، الذي يعيش أحلى مراحل جذله، لن يكون بعيداً عما يجري، بعد أن بات الاعتراف بوجوده أمراً مقبولاً من قبل البعض.

ولن يقف هذا الكيان مكتوف الأيدي تجاه ما يجري الآن، ويفوّت فرصة سانحة لإضعاف قوة الأمة وتشطيرها، فذلك بالنسبة له، هو الضمان الوحيد لتأمين وجوده واستمرار نهجه الاستيطاني التوسعي، دون مجابهة حقيقية من قبل الأمة.

مطلب الحرية، هو مطلب مقدس، لا ينبغي أبداً التفريط فيه، كما هو مطلب الأمن والحفاظ على وحدة الأوطان. وينبغي ألاَّ يوضع المطلبان الجوهريان في حالة تقابل.

إن ذلك يتحقق فقط، حين تُدرك القيادات السياسية أنها ستكون أكثر مشروعية حين تؤمن تأييد شعبها لها، والتفافه من حولها.

ومن جهة أخرى، فإن على قادة الحركات الاحتجاجية، التنبه إلى المخاطر التي تحدق ببلدانهم، وإدراك أن الحرية ليس لها مكان غير أوطان قوية تصونها وتذود عنها.. إنها حقاً لمعادلة صعبة، خطورتها تكمن في وضع الحرية والوطن في حالة تقابل، مع أنهما صنوان لحقيقة واحدة.

ولا مناص من الاحتكام إلى العقل وتقديم التضحيات والغالي والنفيس من أجل حماية وصيانة هذين المطلبين، ووضعهما في مستوى يليق بهما: الحق في الحرية وحماية الأوطان.